الجزء 39


بعد عدة ساعات من القيادة المتواصلة في الطرقات الترابية وبين الحقول الخضراء التي تبعث البهجة في روح كل من شاهدها.. كانت "الينا" تجاهد كي لا تغفو .. و لكن النسيم العليل قد تحالف مع سلطان النوم ضدها لتغفو قسرا اثناء سيرهم..

كان هو يسترق النظر اليها من حين لأخر ... ليلحظ راسها التي تتحرك بعدم اتزان .. نتيجة نومها السهو ..

نظر الي الطريق من نافذته غير مكترثا لأمرها فهو لم يعد يرد الاحتكاك بها بعد الأن.. بعد ان شعر بأطياف دافئة تداعبه كلما كانت معه في مكان ما .. احساسه بان قلبه بدأ يستهوي وجودها .. هذا انذار خطأ ..

فلا يمكن للفهد أن يقع في عشق غزالة اصطادها يوما , ففي النهاية هي لا و لن تنتمي لعشيرته مطلقا .. كما ان غرضه منها لم يكن سوي بهدف سد غريزته المتوحشة في افتراسها ليس الا..

صراع كبير يدور بين جيوش العالم داخله ..يعلم ان نهايته هو الجحيم فتلك الحرب الوحيدة التي ستكون نهايتها الموت لكلا الطرفين..

تشنجت عضلاته عندما شعر بشيء يحط علي منكبه .. دقق في نافذته لتعكس له طيف صورتها .. علم انها هي.. ادار رأسه ببطء ناحيتها ليراها عن كثب و هي نائمة علي ذراعه غير شاعرة بما يدور حولها .. لم تطاوعه يداه في ابعادها .. بل وجد ذراعه يلتف حولها ليحيطها و ويده الاخر تسندها لتنم علي صدره كي لا تؤثر فيها مطبات الطريق الوعيرة و تقلق منامها ..

بدأ الليل يسدل ستائره عليهم .. ولم يصلوا بعد.. لم يشأ ان يسأل السائق عن ما تبقي من الوقت ليصلوا كي لا يزعجها بصوته وتستيقظ ..

ظل صامتا و هو يتأملها.. حتي شعر بها تتململ فابعد يده عنها وابعد رأسها عن صدره لتعد و يسندها علي منكبه مستندا برأسها علي ظهر مقعده مغلقا عينيه..

فتحت عينيها لتستعيد وعيها وتنتصب مبتعدة عنه في هلعا من وضعها التي كانت عليه.. رمقته بنظرة متفحصة لتجده يتململ في مقعده كأنه علي وشك الاستيقاظ..

ابتعدت عنه كثيرا و اخذت تحدق في الخارج كي لا يتحدث معها.. و يري وجهها المتورد خجلا منه..

زفر انفاسه بخشونة ثم اقترب من السائق ليسأله عن موعد وصولهم : لسه كتير علي ما نوصل يا عم فتحي؟

ركز علي الطريق أمامه قبل ان يجيبه باحترام : لو كنا اتشيعنا من مطرحنا قبل العصاري كنا فاتنا وصلنا من ساعتين .. بس زي ما انت شايف يا بيه الطريج واعر جوي ازاي.. ومفيش عمدان نور تنورلنا.. يدوب نور العربية منور قدامها..

ربط "أدم" علي كتفه قائلا : طيب شد لنا شويه يا عم فتحي .. اصل ضهري شويه وهيشتكي.

قهقه الاخير قائلا : ههههه ... ماتأخذنيش يابيه .. حكم الطريج.

ابتسم "أدم" ثم أردف قائلا و هو يخرج هاتفه من جيبه : بهزر معاك يا رجل يا طيب.

-ربنا يخليك يا ولد الاكابر.

وضع "أدم" الهاتف علي أذنه بانتظار رد من يهاتفه..

-هااا حبيبتي وحشتيني.

انتفض قلبها هلعا ناحيته ليتأكد من ما سمعه قبل أذنها ... لتجده يكمل قائلا : انا كويس يا حبيبتي.. لا مقدرش أغيب عنك أكتر من كدا .. أنا لما أنزل هشوف حكاية الدكتور دا ايه .. و نشوف الاحسن مين ونروح له .. أنا كمان بحبك قوووي .. لا اله الا الله .. باي.

انزل الهاتف عن اذنه ليغلقه ولكنه شعر بها تراقبه .. نظر ناحيتها فجأة ليجد وجهه شاحب بشدة كالأموات..

لم يكن هناك مجال للتكبر فقد بدأت ارتعاشات جسدها واضحة .. سألها بلهفة واضحة : انتي كويسه؟

لم تجبه بل احتضنت نفسها أكثر.. ما كان منه الا ان خلع عنه سترته و وضعها عليها يضمها اليه وهي لا تشعر بشيء سوي الدنيا تدور من حولها وترغمها علي ان تدور معها.. تخاطب نفسها " معقول يكون مجوز قبلي"

..............

بعد مرور ساعتين ..

التقطت اذناها صوت طرق ما ثم صوت اشياء تضرب ببعضها .. فتحت عيناها ببطء لتجد نفسها ممددة علي اريكة خشبية غير مريحة باتا .. و الضوء خافت قليلا في الغرفة .. نظرت اتجاه الصوت الذي ايقظها لتجده جالس امام مدفئة يبدو عليها الثري .. يلقي ببعض الحطب فيها و يقلبه بواحدة اخري حتي يتصاعد شقراوات الحطب المحترق و يعم الدفء الغرفة بأكملها.. انتصب واقفا بعد ان انهي مهمته.. ليراها قد استيقظت..

جلس علي الكرسي جوارها ثم قال لها : انتي كويسه؟ لسه تعبانه؟

وضعت يدها علي رأسها بإعياء حقا ثم قالت : اه الحمد لله .. هو .. احنا وصلنا امتي؟

- من نص ساعة بس ..

- هو مفيش نور في البيت هنا ولا ايه؟

- لا فيه .. بس قاطع من قبل ما نوصل.

ضمت يديها لبعضهما تنفخ فيهما انفاسها الساخنة لتدفئهما قليلا قبل ان تسأله بتوجس : احنا في البيت لوحدنا..؟!

اجابها باختصار و هو ينهض ليتمدد علي الاريكة الاخري الموجودة في الغرفة : ايوه .. مفيش غير الغفير اللي بره .. و قال اني في بنت هتيجي بكره تشوف طلباتك .. تصبحي علي خير.

ادار ظهره ناحيتها كي لا تبقي امام عينه.. ساد الصمت بينهم قليلا لتقطعه حين همست له بصوت مسموع : انت هتنام؟

رد باقتضاب : ايوه .. عندك أكل علي الطرابيزة ابقي كل .. و ماتحاوليش تخرجي بره الأوضة دي ..لان البيت كله زي التلج .. مافيش غير الاوضة دي اللي فيها دفاية.. تصبحي علي خير.

نام علي جانبه الايسر من شدة الارهاق لم يعدل من نومته حتي .. انتظرت هي حتي شعرت بانتظام انفاسه لتنهض و تأكل فقد كانت حقا جائعة.. ثم عادت لتنكمش علي نفسها وتنام..

..............

حل الصباح علي ذلك البيت الريفي الذي أقاما فيه الليل بأكمله.. كان الديكة تصيح بصوت عال أجبر "أدم" علي الاستيقاظ متأففا ..

لتستيقظ "الينا " ايضا و تجده جالس علي الاريكة بشعر أشعث و أعين زابلة .. تثاءب قائلا :صباح الخير

-صباح النور.

-نمتي كويس؟

حكت رأسها بسأم : يعني.

التقط أنفه رائحة شهية غير معتادة فسألها : شامه اللي انا شامه؟

أخذت تشتم بأنفها حتي التقطت أيضا تلك الرائحة الزكية ... لتشتمها بعمق قائلة : اااااالله دي ريحه حلووه قووووي.

مد يده ليصطحبها قائلا: طيب تعال نشوف ايه الريحه الحلوه دي .

حدقت في يده الممدودة اليها بتردد و اندهاش ، غمز لها بعينه ليحثها علي الامساك بيده قائلا : انتي عصافير بطنك مش بتسوسو ولا ايه؟

حدقت فيه باندهاش فارغة فاهها : هاااا؟

امسك بيدها يسحبها للخارج .. لتترك له السيطرة فقط لشعورها بالجوع..

وجدا الفتاة التي أخبرهم الغفير بمجيئها تقف في المطبخ وتعد لهم الفطور .. تناولوا فطورهم ثم خرجوا ليأخذ كل منهم جولة في ذلك المكان الرائع ساعدهم فيها تحسن الجو و شروق الشمس..

اعجبت " الينا" بالحقل الذي كان أمام البيت ، و قضت معظم النهار فيه وسط الخضرة المحيطة بها ساعدتها علي الاسترخاء قليلا.

أما "أدم" فقد أحب الدور الملحق بالبيت الريفي خاصة لوجود اسطبل صغيرا لحصانين فيه أحدهما بني والاخر أسود كالليل.. أخذ يساير ذلك الحصان الاسود حتي هاوده في امتطاءه والسير به رغم تحذيرات الغفير له حين نبهه بخطورة ذلك الحصان..

............

دلفا اخيرا الي البيت ليتناولا الغداء معا في هدوء تام .. كان كل شيء طبيعيا حتي أثارت عليه ذكريات طفولته المدقعة حين سألته بفضول : انت مامتك انتحرت فعلا؟

القي الملعقة من يده لترتطم بالصحن أمامه بقوة أفزعتها ثم هدر بغضب جلي في حروفه : مش من حقك تسألي في حاجه متخصكش ...

نظرت اليه بتحدي و قالت : لا بقي من حقي حاجات كتيره اوي يا أدم بيه.

نهض من مكانه و تجه نحوها لينحني عليها و يحصرها بين الكرسي و ذراعيه ليهدر بفحيح كالافاعي : وانا كمان في حاجات بقت من حقي و استنيت الوقت المناسب عشان اخدها واعتقد انه ده انسب وقت ..

لمحت في عينيه ونظراته المتفرسة ما يرنو إليه ... لتفطن علي الفور تلك الحقوق التي يقصدها مما جعلها تنتصب واقفة لينقلب مقعدها للوراء قائلة : وانا مش هسمحلك.

-مش هتسمحي لي بايه بالظبط يا بنت مهران..؟

التقطت السكين الموضوع في طبق الفاكهة امامهم و اشهرت في وجهه قائلة : مش هسمحلك تلمسني.

- ابعدي السكينه دي يا دكتورة لتعورك.

- لا مش هبعدها و لو راجل قرب مني.

اشتعلت ناره من كلمتها الاخيرة فهجم عليها ليأخذ تلك السكينة منها .. و بين شد وجذب افلتتها عندما شعرت انها قد انغرزت في شيء ما ..

وابتعد هو عنها ليرمقه بأعين غاضبة و الشياطين تحيط به من كل جانب توسوس له بفعل الافاعيل بها .. صاح فيها بقوة :

" ااااه . . . انتي اتجننتي.. "
تجزم انها رأيت الجحيم متجسدا في عينيه حقا، لا تدري متي اقترب منها مرة اخري .. فاقت من شرودها علي يده التي كانت تقبض علي ساعدها بقوة لتسيل الدماء منها في خطوط متعرجة علي طول ساعدها..
لم تبالي لقبضته التي تكاد تهشم عظام ساعدها ابدا، بل كانت تراقب دماءه بأعين ترتجف خوفا و رعبا و هي تسري علي ذراعها كمخطوطة جبلت بدماءه... هدرت بصوت متقطع قائلة: انا .. انا .. معرفش.

ترك ذراعها بقوة ليصيح فيها قائلا : اخرسي مش عاوز اسمع صوتك نهائي.

ابتعد عنها ليصعد الي غرفتهم التي جهزتها الفتاة التي كلفت بمساعدتهم .. كان جسده كالشهاب المحترق فقد تذكري مشهد أمه .. كما انه بلغ الان ذروة غضبه.. خلع عنه سترته وقميصه عل برودة الشتاء تطفئ السعير المتأجج داخله..

أما هي فظلت مصدومة قليلا تحدق في دماءه التي علي ذراعها .. نهضت من مكانها لتذهب اليه..

دخلت للغرفة بتردد ثم اغلقت الباب بهدوء ، فلم يشعر بها ، التفتت و نظرت له حيث كان يوليها ظهرهه ..

و قبل ان تتقدم بخطوه واحدة وقفت مذهولة .. مما رأته ، اقتربت بخطوات بطيئة و هي تدقق النظر .. كانت ندوبا كثيرة تغطي ظهره ، كانت تتساءل عن سبب تلك الندوب العميقة ..

اخفضت رأسها بعد ان بلعت ريقها و تنهدت بعمق و بصوت مرتفع ... فشعر بها ، ففتح عينيه المظلمتين و نظر لها من فوق كتفه و تجاهلها و عاد كما كان يحدق في الفراغ امامه ، فرفعت نظراتها له و تقدمت بخطواتها المترددة إتجاه الكومود و اخرجت من احد ادراجه -صندوق الأسعافات الأولية- و من ثم التفتت و نظرت له فوجدته مغمض العينين و كأنه يسترخي اقتربت هي منه جلست علي ركبتيها أمامه لتحدق في جرح يده لبرهة ثم اخفضت نظراتها لصندوق الإسعافات الأولية و فتحته لتخرج منه زجاجه مطهر للجروح و قطن طبي ..

فتحت زجاجه المطهر و وضعت القليل منه على القطن و من ثم اعادت نظراتها ليده ثم وضعت الأخير على يده ليفتح عينيه بإنزعاج و ينظر لها باقتضاب فهالها بنظراته المظلمة و تنفسه الخشن و همسه الخشن
- بتعملي اية؟
بلعت ريقها بإرتباك و هي تنظر ليده و تقول بهدوء اتقنته
- السكينة جرحتك ...
اعاد نظراته امامه فعادت هي لما كانت تفعله ، فساد الصمت إلى حد اصبحت تسمع صوت تنفسه الخشن .
- ايه الجروح اللي في ضهرك دي؟
قالتها بصوت خافت و هي تنظر لابرة الجراحية كي تلتقطها وتخيط جرحه بعد ان انتهت من تطهيره ، و اكملت بحيرة
- اثرها واضح اوي ، وكأنها جروح جديدة.
لم تكن ترد أن تذكره بماضيه كانت فقط تحاول ان تلهيه كي لا يشعر بالالم وهي تخيط له جرحه .. ظنت انه لن يجيبها و لكنه قال : وقعت وانا صغير من الدور التاني علي لوح ازاز .. كنت هتشل فيها لولا ان ربنا ستر بيا عشان اخد بالي من اختي و عمتي.

نظر اليها ليجدها تلفه بالشاش الابيض .. وقف منتصبا ليلتقط قميصه وسترته و يغادر بعد ان ارتداهما.. كم كانت تود ان تسمع قصته بكل شوق .. يثير فضولها في كيفية وصوله الي ما هو عليه الان.. لم تتمكن من الاعتذار منه لذا بحثت عنه لتجد الغفير يخبرها بانها قد اخذ الحصان في جولة..

لتذهب هي الي الحقل و تجلس فيه علها ترتاح قليلا من تلك الضوضاء التي تنغص عليها حياتها.

...........

بعد عدت دقائق مرت عليهم جميعا..

وبينما كانت هي جالسه سمعت صوت صهيل يأتي من خلفها ، فنظرت حولها فوجدته يعتلي حصان اسود يجعل من ينظر اليه يخاف ركوبه ويهب لونه ..

رأته ينزل به الي الحقل و يتقدم منها من بعيد ، فنهضت بهدوء و هي تنظر له .. ثم وضعت يدها على صدرها ناحية قلبها عندما شعرت بدقات قلبها تسرع كلما يقترب اكثر ،فشعرت بالحيرة و الضياع .. و الارتباك ، اوقف هو الحصان بالقرب منها و نظر لها بجمود لبرهة ثم قال بهدوء : تركبي ؟
هزت رأسها رافضه و هي تقول: لا .. مش عايزه.
ارتسمت على وجهه إبتسامة جانبية ساخرة وهو يقول:بمزاجك مثلا !
رفعت حاجبيها ببلاهة ثم تراجعت بضع خطوات للخلف و هي تراه يترجل من على ظهر الحصان و يقترب منها ، هتفت بثبات حاولت إتقانه:مش هركب قلت .. هتجبرني يعني!
اظلمت عينيه و قال ببرود: جاي على بالي اني اركبك .. فهتركبي..
فور ان انهى جملته جذبها من ذراعها بقسوة فأختل توازنها و ارتطمت بجسده بقوة فتأوهت ، فلم يبالي حيث سحبها خلفه و جعلها تعتلي على ظهر الحصان عنوه متجاهلا تذمرها و تأوهاتها ، ثم اعتلاه خلفها و امسك باللجام ، فنظرت له و قد ظهر الخوف في حدقتيها العسليتين و هي تقول بخفوت خائف: طب نزلني و مش هسألك عن حاجه تضايقك بعد كده.
نظر لها من فوق بسخرية، ثم نقل نظراته امامه و ضرب الحصان بخفه باللجام ، فبدأ بالركض البطيء ، فتسارعت دقات قلبها و بدأ الخوف يتملكها رويدا رويدا ، فتمسكت بسترته .. في حين اسرع الحصان في الركض فتمسكت به بقوة و هي تغمض عينيها و تدفن و جهها في صدره ، فنظر لها من فوق بإستمتاع ، ثم نظر امامه و هو يمرر انامله القوية على خصرها و يقربها منه ، و إبتسامة صغيرة صادقة على وجهه .:افتحي عنيكي
قالها بهدوء ، فلم تستجيب ، فأعاد قوله بحدة خفيفة :قلت .. أفتحي عنيكي ، و بصيلي..


إعدادات القراءة


لون الخلفية