الجزء 50

وصلت إلي وجهته الذي حددها ليلتقي بها فيها .. مطعما هادئا يقع وسط البلاد .. كانت قد ترددت عليه مسبقا مع شقيقاتها و صديقاتها .. و لكن تلك الأحداث التي قلبت حياتها رأس علي عقب حرمتها من كل جميل . . . لم يتغير في المكان شيء هو نفسه بـ هدوءه و سكينته المعتادة ..
لكنها داهمتها عاصفة مشاعر متضاربة هزت جنباتها ذلك حين تقدمها" زين" في الخُطي و هو يدلف قائلا: أدم قاعد هناك اهو...

لم تهدأ رياح صدرها العصفاء بل زادت في قوتها حتي تسربت الي قلبها الذي أخذ يضرب أضلعها معلنا تمرده علي ذلك الخواء و الوحشة التي يعيشها بين سياج صدرها .. تنفست بعمق عله يهدأ و يعد الي رشده متخليا عن تمرده الأهوج ..
تبعته بخطي هادئه و هي تحدق بظهره المواجه لهما .. حتي التفت علي صوت" زين" حين ناديه بهدوء: أدم..

التقت عيناه الزرقاء بعينها لتجد نفسها غارقة في أمواجها الهادئة و لأول مرة تهوي الغرق فيهما ..
أما هو فـ أشفق علي حالتها المزرية فقد كان وجهها مازال شاحبا من أثر الفقر الذي أصاب دماءها..
حييهما بهدوء : صباح الخير ..

كانت تحيته الباردة إليهما كفيلة لإخراجها من شرودها ..

أجابت باختصار و هي تشيح بنظرها ناحية المقعد الذي ستتخذه مجلسا لها : صباح النور.

جلسوا جميعا حول الطاولة و الصمت يسود الأجواء المحيطة بها حتي رفعت" الينا " رأسها تحدثه بنظرات باردة أتقنت تمثيلها فقد صدقتها عيناه ثم قالت : طلبت من حضرة الظابط يجيبني هنا ليه؟!

اشبك يداه معا ووضعهما أمامه علي الطاولة ثم تأمل تشابك أصابعه المرتب قبل أن يطلق تنهيدة طويلة أفصح بعدها عن مبرراته في إجتماعه بها باكرا هكذا، أجلي صوته المحشرج ثم قال: في الحقيقة يا دكتورة إلينا أنا طلبت من زين يجبك هنا عشان عاوز منك خدمة .
كانت تحدق هي أيضا بيديه المقابلة لها و هي تنسج خيوط أحلامها في بناء أسرة يكون هو شريكها فيها و لكن سرعان ما انقطع خيط الأحلام الوردي لنعته لها بلقب الدكتورة..

ردت باقتضاب: ايه هي الخدمة دي؟!

تبادل النظرات الواجسة مع "زين" قبل أن يفصح عن نيته في طلبه ..
..........
بعد ما يقارب ساعة خرجوا جميعا .. ليتوجهوا ناحية السجن بعد أن شرح "أدم" لـ "الينا" مبرره .. و الذي كان ..
" اللي عرفناه انك انتي و والدك اللي بلغتم عن ماهر السيوفي و أنه طلب يقابلكم كتير بس انتم رفضتم.. و اللي عرفته منك أن في حاجه كبيره بينه و بين عمتي و بيهددها بيها ، فـ ياريت تيجي معانا لأنك الوحيدة اللي تقدري تزوريه بسبب القرابة اللي بينكم و فكرنا أنه لما يشوفك هيقولك عن كل حاجه ، و مش هيعاند معانا و ينشف رأسه.. لانه عارف انك الوحيده اللي تقدري تخرجيه من السجن"
كانت تفكر في حديثه و هي تقود درجاتها البخارية بسرعة هائلة لا تدري بما يدور حولها و لا تسمع بوق سيارة "أدم" الذي يصدع بازعاج لينبهها الي سرعتها الفائقة و لكن دون فائدة ...

كاد قلبه أن يقف أكثر من مرة كلما مرت بين شاحنات الطريق الضخمة...
كل ما كانت تفكر فيه هو استغلاله لها ليعرف خفايا عمته .. لم يهن عليه ان يسألها عن صحتها حتي مما أثار جنونها و استياءها ..
زفر أنفاسه الحبيسة داخل صدره عندما رأيها أخيرا تركن درجاتها جانبا بالقرب من السجن .. ترجل من سيارته بسرعة البرق و هو يلعن الساعة التي سولت له نفسه فيها أن يلقي ببعض دولاراته في مزاد ليشتري لها تلك الدراجه ..
ساري بخطي غاضبة نحوها ليصيح فيها كـ المجنون : انتي طرشه .. مابتسمعيش. .. و لا مجنونه و عاوزه تموتي نفسك..؟!
ربت "زين" علي كتفه ليصده عن غضبه اتجاهها : اهدي يا أدم جايز ما خدتش بالها من كلاكساتك .. بسبب الخوذة اللي علي رأسها..
نظر له "أدم" بأعين تتقد بنيران غضب لا منبع لها ثم انفجر صائحا فيه هو الآخر: مش مبرر افرض كان حصلها حاجه كنا هنعمل ايه ساعتها.؟! .

_ لو كان جري لي حاجه كنت سبني مرميه علي الطريق و كمل طريقك و متبصش وراك ..

استفزته بما قالته و فجرت بركانه الخامد بيدها الذي لن تحرق حممه أحد غيرها.. كاد يتهجم عليها لولا " زين" الذي وقف أمامه يمنعه من الوصول إليها ..
أما "الينا" فارتعدت أوصالها بخوف . . . فهي لأول مرة تراه همجيا هكذا..
أثرت الصمت حين جحظت عيناه بشدة كما لو ودَّت أن تخرج من محجرها لتلتهمها ... صاح بغضب في "زين" : ابعد عني يا زين ، انت مش سامع الهانم بتقول ايه؟!
صاح فيه "زين" بصوت يعلو علي صوته ليسيطر علي جموح ثورته : اهدي يا أدم .. انت اللي زعيئك عليها خلها تقول كده .. اهدي عشان ننجز اللي احنا جين علشانه ونمشي ..
بالفعل استطاع أن يعيده الي رشده و تراخت تشنجات جسده و وجهه.. رويدا...
استغفر ربه وهو يمسح علي وجهه داعيا ربه سرا أن يمده بالصبر فهو لم يعد يطيق خيبات أكثر..
أشار "زين" لـ " الينا" لتدلف الي مبني الإدارة ثم سحب "أدم " برفق معه للداخل .. سارا في الرواق لا ينظر أحدهم إلي الآخر بينهما مسافة ليست بالكبيرة و لا بالصغيرة و لكنها في الحقيقة كـ بعد الأرض عن السماء ..
و "زين" يسير أمامهما متوسطا تلك المسافة الفاصلة بينهما قائدهما الي مكتب مدير السجن ..

كان" أدم" يحدق في عسكرٍ يقبض علي ذراع أحد السجناء و يسيران في اتجاه المقابل لـ "الينا" التي حنت نظرها كما لو تعد خطاها علي الأرض .. كادا أن يقتربا منها و الاصطدام بها أضحي أمرا مؤكد حدوثه ..
لم يجد بدا من مراقبتها .. قبض علي ذراعها يجذبها ناحيته لتصطدم به متفاجأة بما فعله و قبل أن توبخه قال بهدوء مبررا فعلته: كنت هتخبطي فيهم ...
و أشار بعينه ناحية العسكري و السجين الذي كان ينظر إليها بنظرات أرابتها ..
أومأت له بتفهم و همت بشكره و لكنه أشاح بنظره بعيدا..
وصل "زين" الي مكتب المدير و اعطي أمره لـ العسكري الذي يقف عند الباب ليدلف الي الداخل و يخبر المدير بقدومه .. خرج ليخبرهم بإذن مديره لهم بالدخول.. نظر لـ " ليلمح في عينه بعضا من التردد...
لديه عذره كله فهو يقدم علي أكثر شيء سيدمر حياته علي الاطلاق...
............
بعد مرور ساعتين من لقاء "الينا" لـ ابن عم والدها و مواجهة عمة "أدم" بوجودها و ترقب "أدم"لهم من بعيد .. وصولاً لـ خروجه منهاراً من المبني يضرب زجاج سيارته بعنف و غضب حتي أدمت يداه ..
" أدم اهدي .. صدقني أنا مكنتش اعرف ان جواب زي ده هيخلي ناهد تنتحر .. صدقني أنا لو كنت اعرف مكنتش عملت كدا.."

كانت تلك "بدور" التي لحقت به بعد أن رأته داهم قاعة الزيارات بدخوله عليهم و هم يتشاجرون بالحديث .. لتعلم أنه علم الحقيقة كاملة الان ..
كانت تبكي بمرارة وحرقة و ندم ...
أردفت بنفس نبرة التحسر و الخزي: أنا عمري ما اعتبرتك انت و دانه ولاد أخويا و دايما كنت بعتبركم ولادي .. انا مليش ذنب في موت أمكم .. هي اللـ....
بتر حديثه صائحا فيها بغضب هستيري: ااااخرسي.
شهقت من صيحته المفاجأة و ارتدت خطاها للخلف بارتعاب حين أخذ يقترب منها كالأسد الثائر و سمعته يقول بهدوء مخيف : ماتجبيش سيرة أمي علي لسانك تاني.. (ثم صاح بغضب) أبدااا ..
و قبل أن يفقد أعصابه و يهين من ربته عاد إلي سيارته ليركبها و ينطلق بسرعة جنونيه و من خلفه "الينا " التي قادت دراجتها بأقصي سرعة علها تلحق به و لكن دون جدوى .. بعد بحث طويل في الأماكن التي يرتادها ..عادت برفقة "زين" الي القصر متمنيين أن يكون قد سبقهم الي هناك..
و كأن أبواب السماء مفتوحة لاستقبال أمنيتهما ..
فعندما وصلا وجداه في انتظارهما في بهو القصر برفقة والدها "مهران" و شقيقاتها و "فخر" الذي كان يجلس علي كرسي متحرك تمسك به "سمية" من الخلف .. و زوجته السابقة" ديانه".... تعلقت عيناها بيده المجروحة تلقائيا لتلمح الشاش يغطيها... فزفرت أنفاسها باطمئنان عليه و لكنها فزعت مكانها عندما سمعت صياح يأتي من خلفها.... صوبوا جميعهم أنظارهم ناحية مصدره.... ليروا "بدور" تهرول ناحيتهم .. تسأل بلهفة: لقيتوه؟!
نظرت إلي حيث تسمرت عيناهما لتجد الجميع موجودا و ليس هو فقط..
ابتسم بخبث حين رأيها قد وصلت أخيرا ... و قال بتهكم.... :
أخيرا وصلتي يا ... يا بدور هانم .. كلنا منتظرينك.. حتى أمي...

أخذت تنظر يمينا ويسارا متفاجئة بحديثة .. ماذا يقصد بـ أمه ..؟! أما زالت ناهد حية ترزق ؟! ..

قرأ تساؤلاتها المكنونة داخل عيناها الضائعة وسط الأحداث .. اختصر عليها الطريق في رحلة بحثها عن البصيرة و نهض من مكانه و هو يضحك بطريقة مخيفة و مربكة .. استنكرتها , ليست هي وحدها بل الجميع .. انتظروه حتي هدأ رويدا رويدا و استطاع استعادة رابطة جأشه ليسمعونه جميعا يردف حديثه قائلا : أمي مستنياكي صحيح , بس مش وسطنا هنا .. لا لا.. ( أظلمت عيناه كمحيط دمس زرقته بمنة ظلام الليل الحالك و هو يستطرد قائلا بأسي ) ..مستنياكي عند اللي راحت له .. هتاخد حقها منك عنده ..

عاد للخلف قليلا وهو يشير بيده لبقية الحاضرين قائلا : كل اللي موجودين هنا عرفوا كدبتك .. و اللي بسببها وقعتي عيلتين في بعض .. و دمرتي صداقة و شوهتي سمعة أمي و حمايا .. وخلتيني أظلم مراتي .. و حرمتيني من أغلي انسانه في حياتي .. و خلتيني محروم دايما من حضن الأم اللي لا يمكن حد يعوضه في الدنيا كلها ..

كانت تعتصر أهدابها بأسي و ندم و عيناها تزرب عبرات حارقة , اقتربت منه تستعطفه : أدم أنا لـ..

قاطعها صارخا بصوت عال يعلو علي صوت الضعف الذي يتخبطه : انتي ايه ؟! .. انتي مفيش في قلبك رحمه .. ( ارتد للخلف و هو يطالعها بصورة مشوشة ثم أردف بصوت متهدج ) لـ.. لا .. أنتي ..معنـ ..دكيش .. قلب ..أصـ..

وقبل أن ينهي حديثه كان يقع أمامهم ليتخذ الأرض مقبرة لآلامه ..ليهرب من عالمهم الي عالم اللاوعي .. فان كان ذلك هو الموت فـ أهلا ومرحبا النفس راضية ومطمئنة .. تهفو بشوق لعناق روح أمه .. فان كُتِب عليه الحرمان في الدنيا من التنهد بسكينة بين ذراعيها .. فـ في الآخرة لقاء يجبر فيه الله خاطر قلبه الميتم..

انتفض الجميع بسرعة إليه .. حتي والده المُقِّعد بلا حول ولا قوة علي كرسيه تحرك بفوضي حتي وقع عن كرسيه أرضا و صاح باسمه بصوت مفتور : أأأدم..أأدم..أدم..

لتداركه "سمية" بسرعة وتمسك به ساعية في اعادة الي كرسيه : يامُري.. اسم الله عليك .. جوم .. جوم لمطرحك..

بينما "الينا" كانت تنظر له بذهول لا تصدق ان حقا من وقع ارضا هو "أدم" .. يرفض عقلها التصديق ..

رأت "حلا" و هي تقيس نبضه و تفحصه بأيد مرتعشة .. ووجه باهت مصفر..

لم يعيدها من عالم اللاشعور الذي انزوت فيه سوي صراخ شقيقتها الطبيبة علي "زين" تأمره : اطلب الاسعاف بسرررررعة..

..................

الساعة التاسعة و ربع مساءا كانت احدي مستشفيات القاهرة الكبري تستقبل أكثر الحالات المرضية أهمية علي الاطلاق .. فقد انتظرها طاقم من كبار الأطباء من ضمنهم طبيب العائلة "توفيق" .. حتي "عدي" كان برفقتهم ظلوا أمام باب الاستقبال الالكتروني ينتظرون وصول سيارة الاسعاف .. التي ما ان ارتأوها حتي هرعوا إليها مشيرين الي سائقها ليقف بسرعة و يقوموا بإنزال الحامل الطبي الذي يرقد عليه "أدم" من الباب الخلفي بسرعة .. لتنزل عجلاته علي الفور و يقوموا بادخاله الي المشفي ..

تلحق به "الينا" التي مرت بجوار "عدي" وكأنها لم تراه تدفع الحامل الطبي معهم .. تحت أنظاره المترقبة لها ليري في عيناها الذابلة ووجهها الشاحب حقيقته المره التي تيقظه من الركض وراء السراب .. انها لهفة العاشق عندما يصاب معشوقه بمكروه..

علي الفور أدلت "حلا" بتشخيصها الفوري لحالته بعد ان فحصته بتمعن خلال نقله لـ هنا ..: النبض ضعيف والتنفس بطئ .. احتمال ارتخاء عضلات القلب محتاج ادرينالين و حقنة سبيـ...

صاح فيها أحد الأطباء الكبار و هو يوقفهما خارج غرفة الطوارئ ..: شكرا لمعلوماتك جه دورنا احنا.. مينفعش حد يدخل..

أغلق الباب في وجههم ليعود الي عمله .. تغاضت "حلا" عن عجرفة ذلك الطبيب المخضرم و التفتت الي اختها التي تبكي بلا توقف فـ قامت باحتضانها بقوة لتطمئنها : اهدي يا الينا أدم كويس .. صدقيني هيبقي كويس.. بس انت اهدي.

وصل البقية الي المشفي و تقابلوا بـ "عدي" الذي أخذهم علي الفور الي غرفة الطوارئ.. ليظلوا جميعهم أمامها بانتظار احد يخرج ليطمئن قلوبهم المفتورة قلقا عليه ..

............

بعد ما يقارب ساعة .. خرج الأطباء من الغرفة مجهدين يتحدثون فيما بينهم همسا .. تفاجأوا بهجوم كبير من الجميع عليهم : اهدوا من فضلكم احنا قدرنا نلحقه علي اخر لحظه ..

رددوا جميعا :الحمد لله ..

أقبل "مهران" يسألهم عن حالته : طيب يعني هيبقي كويس ؟!

رد عليه الطبيب نفسه بأسي : للأسف هيفضل تحت الملاحظة فترة لحد ما ترجع مؤشراته الحيوية للطبيعي و نبدأ باجراءات العملية .

عقد حاجبيه و هو ينظر للجميع خلفه ليري الريبة في أعينهم جميعا .. ثم يعد بنظره اليه يسأله باستفسار: عملية ايه؟

- عملية تغير شرايين..

شهقت "الينا " و جحظت عيني "زين" الزجاجية من اثر الدموع المتيبسة في صحراء مقلتيه .. لا يصدق ان صديقه الذي كان يلهو معه بالأمس البعيد أصابه المرض و جعله طريح فراش طبي ..

صدمة كبيرة ضربة أفئدتهم قبل رؤوسهم ... لم يخيل لأحد أن يكون هذا نهاية المطاف .. متي أتاه ذلك الانسداد و من أين ؟! لا أحد يعلم..

........

دلفت "الينا" اليه بعد ساعة من تلقيهم الصدمة وفقا لطلب من الطبيب .. فقد أخبرها بأن جسده كأجساد الموتي مازال شاحبا .. رغم استجابته للأدرينالين .. و لكنه لم يستفق.. طلب منها ان تجلس بجواره عله يشعر بها .. و بوجودها معه .. لم تستطع ان تحبس دموعها ظلت قليلا تتأمله ثم اقتربت ورقدت علي الكرسي المجاور لفراشه .. و أكتفت بامساك يده بين يديها .. كانت تخشي دائما ان تتشابك يدها بيده يوما .. لتأتي هي اليوم بمحض ارادتها و تشبكهما معا باستحواذ.. لتسمعه يهمس بشيء ما .. اقتربت لتسمعه يردد اسم " امي" .. علمت انه مازال جرح الفراق غائرا ..

........

في مساء اليوم التالي ..

" أيوه أنا المسؤول عن أي حاجه تحصل "

التقط القلم من ذلك الطبيب وضغط علي القابس الخلفي ليخرج سنه و يخط توقيعه علي ورق اخلاء مسؤولية المشفي عن اي شيء يصيبه فور خروجه وتحمله كامل المسؤولية في حين تعرضه لأي تدهور صحي..

" و أدي توقيعي أهو.."

ناوله الورقة بعد أن خطي توقيعه عليها ثم خرج دون ان يلتفت خلفه .. خرج في جنح الليل مستغلا ذهابهم عنه قليلا .. فطالما لم يحن موعد موته .. سيذهب عن هنا عن كل ما ينغص عليه حياته .. كانت طائرته بانتظاره بالفعل في المطار و قد اجري اتصاله علي مربية شقيقته "كريمة" لتعد حقيبتها .. وتخبر "دانه" بأنه في انتظارها بالأسفل عند مدخل العمارة..

اندهشت "دانه" : ماتعرفيش عاوزني انزله في الوقت ده ليه يا داده ؟

ردت الأخري المغلوبة علي أمرها : و الله ما عارفه يا دانه يا بنتي .. هو قالي اجهزك و انزلك و اجهز لك شنطة هدومك كمان..

عقدت حاجبيها عندما سمعت نسأ ما قالته الاخري و همست باستنكار : شنطة هدومي ..!!

بعد دقائق معدودة فقط كان "أدم" يحملها من علي كرسيها ليضعها علي المقعد المجاور له في سيارته متحاملا ألم قلبه الذي يكد ينتهك أنفاسه .. كان يظن أنه عندما يفعل ذلك لن تشكي "دانه" به ..

ليته حقا لم يفعل فقد اشتمت رائحة المشفي التي لازالت عالقة في ثيابه فقد راح عن عقله أن يبدلها.. لتسأله وهي تفحص وجهه الشاحب المستتر بعضه خلف لحيته الشعثاء ..: انت كنت في المستشفي؟!

زاغت عيناه لدقيقة من سؤالها المفاجئ له .. و لكنه تجاهله عندما وضعها علي المقعد و ربط حزام الأمان لها انتهاءا باغلاقه بابها و اسهابا بسيره من الجهة الأمامية للسيارة وصولا الي مقعد السائق ليستقله و يشغل السيارة علي الفور منطلقا الي المطار ..

لتبدأ "دانه" في امطاره بوابل أسئلتها : في ايه يا أدم ؟! احنا رايحين علي فين في الوقت دا ؟! و كنت مختفي فين من امبارح ؟! و ايه ريحة البنج اللي في لبسك دي؟!

أدار عجلة القيادة و هو يحدق في الطريق أمامه متجاهلا الاجابه عن أسئلتها فهو ليس لديه الوقت لشرح ما يحدث لها الأن.. لذا أبكم لسانها الذي لن يهدأ , بكلمة واحده قالها بصوت أجش : الطيارة مستنيانا .. مش عاوزين نتأخر..

.............

بعد مرور أسبوعين ..

استسلموا من البحث عنه وعن شقيقته فقد اختار الهرب بمحض ارادته .. بعد ان اعاد لكل زي حق حقه .. فقد ترك القصر لعمته ووالده و زوجته واعاد الشركات لمهران ..

بينما في مدينة سيدني الواقعة في تلك القارة الجزيرية النائية في ركن بعيد ..

خصيصا في احدي المستشفيات التخصصية الشهيرة هنالك..

كان "ساري" ممدد علي احدي الحوامل الطبية مرتديا مريولا طبيا .. يمسك بيد والدته الغالية .. التي تسير بجانب الحامل الذي تدفعه ممرضتان واحدة عند رأسه و الاخرى عند قدمه .. يسيران به في رواق المشفي متجهين به الي غرفة العمليات .. فقد انتهي منذ اسبوعين من اختباراته الجامعية واصبح الأن مهندساً قولا وفعلا و قبل ان يستلم إدارة شركات والده قرر أن يجري عملية لمعالجة السُمنة .. كان قد تابع مع احدي الأطباء فور وصوله الي استراليا و ظل بانتظار انتظام مؤشراته الحيويه ..حتي آن الآوان..

ابتسمت "ديانه" بعد أن لثمت يده بحب ثم قالت لتطمئنه : لا تخف عزيزي الأمر ليس بالصعب و الطبيب ديف من أكفء الأطباء في هذا المجال.. فلا داعي لقلقك ستخرج سالما..

بادرها بابتسامة هادئة : لست انا القلق أمي .. بل أنتِ .. حتي يدك المثلجة تشهد عليكي .. لا يحق لطبيبة مثلك أن تقلق من عملية صغيرة كهذه..

أدمعت عيناها وهي تمسح علي وجهه بحنان قائلة : دخلت الطب كي لا أري زوجي و أطفالي مرضي أبدا .. كي لا يريني الله بأساً فيهم قط ..كي لا أقف يوما أمام غرفة العمليات أنتظر خروج أحدهم منها ..

- لا بأس أمي ليست عملية كبيرة .. أرجوكِ فقط اطمئني علي أدم .. فأنا قلق عليه لم يجب علي اتصالتي منذ اخبرته بعودتك من مصر..

- لاتقلق يا صغيري .. عندما تخرج سالما سنتحدث اليه سويا ..

- حسنا أمي وداعا.

ظلت واقفة عند عتبة الباب الزجاجي وهي تراقب دلوفه الي الغرفة .. حتي اغلق الباب تلقائيا ليحجبه عن رؤيتها لهم ..

أقبل علي الغرفة رجل أشقر في نهاية العقد الخامس او ربما اصغر فمازال تنبحث منه طاقة شبابية تجعلك تتصنم أمام شباب شيخوخته متأملا..كان يسير برفقة أحد الممرضات يملي عليها بعض التعليمات و فور انتهاءه توجه ناحية غرفة العمليات ليلتقي بها تقف عندها متوترة تبكي .. فأثر ان يتحدث إليها قليلا فقد كان أستاذها في الجامعة و يعرفها تمام المعرفة .: مرحبا ديانة .

-مرحبا أستاذي.

-لما أري الدموع في عينيك ؟!

-انه وحيدي .. و لا أطيق أي مكروه يصيبه حتي وان كان صغيرا.

ابتسم قائلا : ألم أخبركِ من قبل أنتِ و زملاؤكِ في اي حدي محاضراتي , ان الحياة سترغمكم علي الوقوف يوما أمام غرفة العمليات في انتظار خبرا مفرح عن حبيب لكم بالداخل .. وانه يجب عليكم ان تبذلوا قصاري جهدكم في جعل نسبة نجاح العملية الضعيف يقوي .. حتي لا يفقد أحد غاليه و يصبح اسمك نقطة سوداء في ذاكرته.. لا تقلقي .. الا تثقين في أستاذكِ..؟!

اسرعت تنفي ظنه قائلة : بلي أستاذي .. و لكنها غريزة الأم لا يستطيع أحد منا قمعها.

ابتسم لها قائلا: لا بأس .. تقوي.. العملية ابسط من أن تعطيها هذا الكم الهائل من الوجل .. اسمحِ لي بالولوچ الأن..

تركها ودلف الي الداخل ليعقم يديه ويرتدي طاقيته و كمامته الطبية و مريول الأطباء المكرس للعمليات ..

لـ تضاء الأنوار المسلطة فوق رؤوسهم و المصوبه علي جسد "ساري" المخدر أمامهم ليشرع في اجراء عمليته..

..............

في الوقت ذاته في ألمانيا..

في احدي المستشفيات هناك كانت "دانه" قد بدأت في علاجها الفيزيائي في المشفي ذاته الذي كان يعمل فيه "عدي" ..

وبعد يوم شاق و طويل أمضت نصفه في العلاج الفيزيائي و جلساته المقيتة التي تداوم عليها لأجل "أدم" فقط .. ولأجل أن تكون أول ما تراه عيناه فور استيقاظه من غيبوبته التي دخل فيها قسرا بعد اجراءه لعمليته ..

المواقف هي التي تظهر وحوش القوة الغافية داخلنا ..فقد اعتمدت علي نفسها و أصبحت امرأة قوية ناضجة.. تركت ضعفها جانبا و لبدت مشاعره لتتمكن من الاعتناء بشقيقها الأكبر و العيش في تلك البلد الغريب..

و لكن في ذلك اليوم .. أقبل عليها الطبيب الالماني " يوهانس " المشرف علي حالتها العلاجية.. ليعرفها علي طالبه الطبيب الذي سيشرف علي حالتها بدل منه خلال اشهر سفره الي مؤتمر الأميريكي..

-مرحبا أنسة دانه ؟! كيف حال جلستك اليوم؟!

ابتسمت له بود ثم قالت : بخير .. الألم ينقص يوما بعد يوم.

- هذا أمر جيد ..

ساعدها لتجلس علي كرسيها المتحرك آلياً.. ثم سار بجوارها في الرواق و هو يسألها عن حالة شقيقها : كيف حال أدم الأن .. بما أخبرك الطبيب هنري عن حالته ؟!

- أخبرني أنه سيخرج من العناية المشددة خلال يومين .. حينها سيكون بامكاني الولوج إليه .

- لا تحزني من هنري .. بسبب توبيخه لك حين رأيكِ لا تتزحزحين عن مراقبتك لـ أدم من زجاج العناية الخارجي .. هو حاد الطباع قليلا .. و لكنه خشي عليكي أن ترهقي و تذهب يقظتك خاصة انه يعلم بعلاجك الفيزيائي هنا..

- لا بأس ، أنا لم أنزعج منه .. فكلماته اللاذعة لن تصيبني بشيء فعقلي ليس معه و انما مع أدم .. ثم اني شاكرة له فلولا تشاجري معه لما سمع أدم صوتي و استعاد وعيه ..

وصلا الي مكتبه وقبل أن يدير مقبض الباب نظر لها باعجاب و اثني علي قوتها قائلا: كم كنت اتمني أن يرزقني الله بفتاة قوية و مثابرة و جميلة مثلك يا دانه !!

ابتسمت بغنج علي مجاملته اللطيفه وسايرته بمزاح : يمكن ان يرزقك بها في حالة أبدلت زوجتك بفتاة مثلي ..ههههه.

- ههههههه , نسيت ان استثني شغبك و تمردك يا فتاة ..

أدار المقبض وفتح الباب علي مصرعه مفسحا لها المجال لتدلف قائلا : تفضلي بالدخول أيتها الفتاة المشاغبة ..

أومأت له برأسها شاكرة لطف معاملته : شكرا لك أيها الطبيب النبيل.

ضحكا معا ولم تنتبه لذلك الذي يقف أمامها يراقبها بأعين حادة .. منتظر رؤيتها له .. حتي أتت لحظة التفاتها للداخل لتشخص عيناها فور وقوعها عليه و تشهق بلهجتها العربية التي قذفها الانفعال لينطق بها لسانها : انت ؟!.

عقد " يوهانس" حاجبيه و هو يستفسر عن ما قالته : ماذا قولتِ؟!
انه الطبيب عدي الذي سيقوم باستكمال العلاج معك لحين عودتي من المؤتمر ..

أخذت توزع نظراتها الحادة المضطربة المتفاجئة بينهما و لا تعلم ما يفعله ذلك المتغطرس هنا ؟!

....................

في الوقت ذاته في فيلا السيوفي التي أعادها اليه أدم قبل رحيله كما أعاد له باقي ممتلكاته التي بِعت مسبقا ..

كان "زين" قد وصل الي الفيلا ليتحدث مع "الينا" و ينقل لها ما عرفه عن أدم .. لمحت سيارته و هو يدلف بها الي الفيلا "حلا" التي كانت تتمشي في الحديقة ..

ركنها ودلف الي داخل الفيلا و جلس في الردهة منتظرا قدوم "الينا" .. ليتفاجأ بشقاءه يقف أمامه : أهلا زين باشا نورتنا ؟! أقدر أفهم انت جاي عاوز الينا في ايه؟

لم ينظر اليها و انما أخذ يدير الخاتم الفضي الذي يتوسط أصابع يده اليمني ثم رد بنبرة باردة : حاجه خاصة .. اعتقد اني طلبت أقابلها هي مش انتي.

اغتاظت "حلا" من احراجه لها و قضمت شفاهها السفلية لتكظم غيظها و لا يظهر له حتي كادت ان تدميها ، اقسمت أن ترد الصاع صاعين له فقالت : انا سمعت انك أجلت فرحك !! ايه العروسه طلعت مغشوشة.؟!
الان قد هدمت أخر حاجز ثبات بناه ليحميها من بطشه ... نهض واقفا و اقترب منها بخطي واسعه حتي تكاد تصدق عينك انه سيتهجم عليها .. : انا مش عارف حبيتك ازاي ..!! أنا قلبي غبي أووي لأنه حب واحده زيك .. و سمح لها تهينه كده ..

نزع الخاتم من اصبعه و عيناه متعلقة بعينها ليمسك بكفها و يرفعه أمامها رازعا الخاتم في يدها قائلا: حبك وهم و حتي دا كمان وهم ... أدم عمل العملية في ألمانيا .. بس هو قرر يستقر هناك مع اخته ياريت تبلغي الينا اختك بالرساله دي ..

كان أخر ما قاله فهو لم يعد يطيق البقاء في مكان هي فيه.. أم هي فـ ظلت تقلب الخاتم في يدها ...

تنظر له و هو يرحل مبتعدا تارة و الي الخاتم الراكد بين يديها تارة أخري .. حتي لمحت عيناها حروف حفرت داخله ظلت تهجي تلك الحروف لتجدها حروف اسمها الذي اتصل اخر حرف فيها بقلب صغير رُبِطَ بأول حروف من اسمه الذي حُفِر هو ايضا بـ الكامل .. كان ذلك عقاب المتعال عن الحب الذي يخذل الهوي كلما أتاه..

.................................

بعد مرور ثلاث سنوات علي الجميع تغير فيها الكثير والكثير...

بدأ فيها كل منهم حياته من النقطة التي توقف عندها..

ففي ألمانيا ..

تداولت الصحف الألمانية أخبار عن الرسامة الشابة المصرية " دانه فخر الدين " التي أذهلت العالم بلوحاتها الفنية و التي خالفت توقعات الصحفيين حين أجروا معها مؤتمر صحفي.. صرحت فيها عن نبذة صغيرة من مشوارها ..

" منذ عامين و بعد رحلة علاج فيزيائية طويلة وشاقة دلف الي طبيبي المعالج و اخبرني أن أقصي تقدم قد يصل اليه في حالتي هو ان اسير بعكازات و ان التحامل الزائد علي قدماي قد يودي الي بترها.. بكيت و صحت و اصبحت في حالة لا يورثي لها و أعتقدت أنها نهاية العالم و لم أعلم أنها البداية ..

ففي البداية كنت أتمرد علي الجلسات و نهاية المطاف عندما رأيت بصيص نور في نهاية نفق حياتي أنطفأ هو ايضا .. سخطُ علي الحياة من حولي ..و اتخذت الوحدة ملجأ و انتظرت الموت بصدر رحب .. (اختنق صوتها بغصات بكاء محشرجة في حلقها , ابتلعتها قسرا ثم صوبت نظرها نحوي أحدهم كان يمثل في نهاية القاعة و أردفت بأعين متلألأة و ابتسامة ) حتي جاء أحدهم و هددني ان يتزوجني ان لم أخرج مما أنا فيه .. شكرا لك فقد شجعت فتاة يائسة علي المضي قدما لتصل الي ما هي عليه الان و شكرا لك أخي علي دعمك المستمر لي ..و شكرا لكم علي رحابة صدركم في سماعي اعذروني الأن فلدي طائرة لابد أن ألحق بها "

قالت ذلك ثم التقطت عكازاتها وهبطت عن المنصة .. لتذهب الي شقيقها وتبدأ رحلة عودتها للوطن..

.................

عودة مرة اخري الي مصر..

في احدي مهرجانات عروض الأزياء ..

كان الهرج و المرج يملئان اجواء غرفة تبديل الملابس و تجهيز عارضات الأزياء ...

كان صياح "تقي" يملأ الغرفة : أنا ذنبي ايه ان العارضة الرئيسية طلع في وشها حبوب ...!! أنا عندي عرض و لازم يكمل .. مين هيلبس الفستان الابيض دلوقتي ؟!

- أنا..

نظرت ناحية الصوت الذي أتي من خلفها لتجدها "الينا " .. رأت فيها طوق النجاة لعرضها الأول .. : انتي متاكدة يا الينا ؟!

اتت "حلا" من خلفها لتلثم خدها : ايوه متأكدة وكله بفضل اقناعي لها طبعا ..

عانقتهما بأعين دامعة : ربنا يخليكم ليا انا بجد مكنتش عارفه هعمل ايه من غيركم ..

- احنا منقدرش نشوفك في أزمة و نقف نتفرج و ابعدي يلا و قولي لي اعمل ايه قبل ما ارجع في قراري..

فكت "تقي" حصارهما وقالت بخوف: لا ابوس ايدك انا مصدقت اتحلت .. روحي مع أرتست جمانه وهي هتظبطك لان العرض خلاص هيبتدي..

بالفعل ذهبت "الينا" و معها "حلا" ..و الجميع بالخارج يراقب العارضة الأولي و هي تسير بغنج بفستانها .. في الرواق المرتفع .. لتتبعها العارضة الثانية و البقية خلفها .. كانت مجموعة مختلفة الي حد ما نالت استحسان البعض .. حتي حان دور العرض الرئيسي ..

كانت "تقي" تقف متوترة في الممر الخفي الواصل بين منصة العرض و غرفة تجهيز العارضات .. رأتهم في الشاشة أمامها يغلقون الاضوء استعدادا لـ ظهور العارضة الرئيسية ..

اصبح الضوء خافتا في الممر ايضا بالكاد تري من يسير أمامك .. دقات قلب متسارعة .. خوف من الفشل .. و عتمة تواري النجاح .. و قبل ان يتملك اليأس منها ظهرت "الينا" و هي تحمل الفستان بكلتا يديها و تحاول ان تسير فيه بانتظام ..وقفت أمامها لتلتقط أنفاسها الثائرة.. ثم نظرت لها و هي ترسم بسمة واثقة علي ثغرها وتمد يدها لتضغط علي كتفها برفق تطمئنها : متقلقيش هتنجحي ..

ثم تركتها و صعدت علي المنصه لتتفاجأ بوجود شاب يقف في مقدمتها يحفه الظلام .. اعتقدت انه من ضمن برنامج العرض الرئيسي.. اشتعلت الاضواء المصوبة ناحيتها لتبدأ في السير بغنج نحوه .. تحاول ان تقلد تلك العارضات التي كانت تشاهدهم في التلفاز عندما كانت صغيرة ..

سارت ببطء حتي لا تتعرقل في أطراف الفستان و يخرب عرض شقيقتها الأول ..

تخطو و كلما خطت كلما علي صوت التصفيق من حولها منبهرين بجمال التصميم و جمال عارضته الآخاذ ..

كانت قد خبأت سماعة هوائية اسفل حجابها متصلة بـ هاتف " حلا" التي كانت تحثها علي المضي و عدم الارتباك : كويس يا الينا كويس جدااا كملي ..

كان ذلك الشخص المظلم يثير الريبة داخلها و يزيد من جأش قلبها كلما ضاقت المسافة الفاصل بينها و بينه ..وضعت يدها اليسرى في خصرها و بالاخري بسطت طرف فستانها الايمن جانبا لتتمكن من السير .. ثم همست لـ "حلا" : مين اللي واقف في الضلمه ده يا حلا ؟!

اشارت "حلا" الي "زين" ليقترب منها ويسمع حديثهما و هي ترد عليها ببراءة : مش عارفه يا الينا اكيد تبع العرض كملي مشي بس.

وقف "زين" خلفها ليحيط خصرها دون ان يلمسها ثم همس في أذنها : يارب توافق عشان انا عاوز اتجوز بقي ..

ابتسمت بخجل وهي تري يديه التي تتمني ان تحيطانها و لكنها تأبي غير الحلال..

لم ترد عليه بل اخذت تحفز "الينا" علي المضي قدما .. : كملي .. كملي..

ظلت "الينا" تسمعها و تسير حتي اوشكت علي الاقتراب من ذلك المجهول لتري الضوء يخترقه فجأة ليظهر وجهه للجميع و يتعرفون عليه في حين ظل علامة استفهام بالنسبة لها..

رأته يستدير فجأة .. ترقبته عيناها بفضول لتشخص حين رأته وتتصلب قدماها في مكانها ... أيعقل ؟! هل هو حقا؟! لا لا .. لابد انها تتوهم ؟! .. اخذت ترفرف بأهدابها و الصدمة تعتليها ..

كانت تتمني ان لا يبتسم ولكنه خالف أمنيتها و ابتسم فارغا فاهه لتظهر أسنانه و يأسرها بابتسامته ... أخر مرة رأته فيها كان طريح الفراش في المشفي عابس الوجه ..كم مر من سنوات !!.. زاد فيها وسامة ..وزاد فيها عشقها له ... تري كيف حال قلبه الأن؟! أيقوي علي تحمل عنفوان حبها له ؟!..

مد يده اليها لتجد يدها تجذب اليه لا اراديا و تحط علي يده الممدودة لها .. لازالت سطوته حاضرة علي فؤادها ..

سار معها لتلتقطهم أعين الصحفيين سويا .. و ليخرج خاتمة من جيبه و يلبسها اياه امام الجميع ..

لتسمع حلا تهنئها : مبرووووووك .. و اخيرا هتجوز انا كمان..

ليقاطعها زين : مكنش قدامنا حل تاني غير دا عشان توفقي بسرعة علي الجواز و اخلص منكم عشان اتجوز الغلبانه اختك دي.. و كله بسبب جوزك حالف أيمنات الله اني ما اتجوز قبله ابدا...

ابتسمت تلقائيا .. فمنذ أن أتم "زين" خطبته علي "حلا" منذ سنتين و هو يأجل الزفاف لأسباب تافهة غير مقنعة..

عادت اللمعة الي عيناها فقد زخرت برؤيته بعد أمد .. لم يتزوج لم يفكر في غيره .. كانت سيدة قلبه و صاحبة السطوة الاولي والاخيرة عليه..

اما "تقي" فكانت لا تقل صدمة عنها...

فقد كانت تنظر للشاشة أمامها بذهول لا تصدق ان الذي أمامها "أدم" .. فاقت من شرودها علي يد تطرق علي كتفها نظرت لتجحظ عيناها و هي تري شاب وسيما مفتولا عريض المنكبين يقف خلفها مبتسما تشعر ان ملامحه باتت مألوفة عليها .. ابتسم ملوحا لها و هو يرحب بها : مرحبا تقي ..

نفس الصوت .. هو نفسه صديقها الاسترالي .. نظرت اليه بارتياب ليومئ لها برأسه ويتحدث اليها بالعربية : ايوا انا ساري أخو أدم و صديقك الاسترالي ..

شخصت عيناها من هول الصدمة .. و قالت : ازاي؟! انت هو .. هو انت ..!!

ضحك علي اضطراب افكارها و قبل ان ينطق بحرف اخر كان المسؤولون ينادون عليها ليختموا عرضها ..

نظر لها بهيام و فرح شديدين : ينادون عليكِ.

أومأت له و هي تتفحص التغير الكبير الذي طرأ عليه ..

- حسنا .. اذهبي هيا ..

نظرت خلفها ثم نظرت اليها وقالت : لا تتحركِ ... ساعود .. لن أتأخر ..

- سانتظرك لن اهرب الي مكان ..

ابتسمت له ثم عدلت من هندام ثيابها المنمقة و تنفست بعمق و راحت لتعتلي المنصة .. و لكنه أوقفها و هو يصرح لها عن حبها : تقي..

نظرت له ليقل : أحبك ..

نشوة وسعادة تسري في أوصالها .. توتر و راحة .. اضطراب و هدوء .. كلمة واحده تتمكن من قلب حياة اي امرأة رأس علي عقب .. كلمة بها تزهر المرأة و تنثر رحيقها في الأجواء .. من قال انه هناك نساء غير صالحات للحب .. ليست هناك امرأة ناقرة للهوي .. بل هناك رجال لا يعرفون ماهية الحب..

تقدمت و كلها قوة و شموخ امده بهم من كلمة واحدة قالها .. تقدمت لتقف بجوار "الينا" و تلثم وجنتها و هي تهنئها : مبرووووك..

ليعلوي تصفيق حار من حولهم.. و من ضمنهما "دانه" التي كانت تقف مستندة علي "عدي" الذي كان يصفق بفرح شديد تأملته عن كثب .. لطالما خشيت عليه من تقربه الزائد منها .. كم أتي امام منزلها في برلين ينتظرها في الثلوج حتي تسمح له بمقابلتها .. كانت تظن مشاعره مجرد شفقة ستزول بمرور الوقت .. ولكنها كانت تقاوم براعم تعلقها به .. رغم تمنعها المستمر من ان يفاتحها في الزواج مرة اخري الا انه لم يمل منها و لم يكل من مساعدتها.. مالت برأسها قليلا لتهمس في أذنه : أنا موافقه افكر.

توقف عن التصفيق و ابتعد عنها قليلا ليتأكد مما تفوهت به الان بغتة ليختل توازنها و قبل ان تقع كان هو ممسكا بها يضمها اليه بقوة و عيناه تدمع من شدة الفرح .. لا يصدق أنها قد وافقت اخيرا .. : متخافيش ابدا طول ما انا جمبك مش هسيبك تقعي ابدا ..

ابتسمت بخجل من وضعهما ثم قالت له : طب ممكن تبعد.. ميـ..

قاطعها حين همس لها : بحبك .. و ماتطلبش أبعد بعد ما وفقتي .. انا مصدقت توافقي ..
قطعت حبل سعادته حين قالت: أنا قولت هفكر .. مش وافقت..
انظر لعيناها بعمق : متأكد انك هتوافق في الأخر..

كان "مهران" يقف في الزاوية ينظر إليهم بامتعاض .. فـ بناته التي لطالما حباهم في عُشِه و وفر لهم الحماية من اي مكروه قد يصيبهم ... قد سرقهن الحب منه و هو يشاهد مكتوف الأيدي .. و بالرغم من ذلك ابتسم فرحا لحصول كل واحدة منهن علي نصيبها من الحب .. الذي علمهم دروسه في الصغر .. ليعيشونه في الكبر و لكن طريق الحب مليء بالأشواك و الضباع التي تكره رؤية الأحباء سويا فهل سينتصر الحب في النهاية أما للحب ألاعيب أخري...

........................

رأيكم مهم طبعا...
تمت بحمد الله ..


إعدادات القراءة


لون الخلفية