الجزء 43


قبل ساعتين ..
كان يرتدي الزي المعقم المخصص لزائري مرضي العناية المركزة و يقف متيبسا مكانه و كأن الطير علي رأسه...
يحدق في ذلك الممدد علي الفراش الطبي بلا حول ولا قوة، و بداخله حروب الكون اجمع ، لا يصدق ان قدماه قادته الي هنا ..
نظر ناحية الباب الزجاجي ليلمح تلك الطبيبة التي تزوجها ابيه بعد امه تقف خلفه مترقبة ..
عاد بنظره الي حيث كان قبل دقيقة و زفر انفاسه المتأججة داخل صدره ثم حل عقدة لسانه ليقل: انا قبل امبارح بس مكنش فارق معايا تفوق من الغيبوبة و لا لأ .. بس بعد ما ساري قالي باللي انت عمله في وصيتك .. قولت لا .. لازم تفوق و تفهمني كتبت كل حاجه باسمي ليه ؟

بدأ صوته يخرج مختنقا بغصة حزن أليم: أنت مفكر ان فلوسك دي هتعوضني الايام اللي عشت فيها اشتغل هنا و هناك عشان اوفر اللقمة لاختي وعمتي .. انت مفكر انك كدا بتعوضني سنين الحرمان من وجودك جنبي ، انت مفكر انك لما تعمل كدا انا هسامحك .. واغفرلك..

انتصب شامخا هامته قائلا باعين محمرة بجمر ألام الحرمان و العجز ، ثم قال بعزة نفس و كبرياء: انا وصلت للانا فيه ده بتعبي و في غيابك و حقيقي اتمني تفوق من الغيبوبة فعلا عشان تتعرف علي المستورد الجديد اللي اشتري مجموعة السيوفي و اللي هيخليك تخسر كل ثروتك اللي عشت تجمعها يا .. (لوي فمه بابتسامة متهكما ثم اكمل قائلا) يا فخر بيه.

خرج من غرفة العناية دون النظر الي تلك التي تراقبه يحدث نفسه قائلا: هحاسبكو واحد واحد علي اللي عملتوه و اولكم زوجتي الدكتورة المصونة.

وصل الي سيارته و قبل ان يفتح بابها تسلل اليه صوت هاتفه ليخرجه من جيب سترته و يرد علي الاتصال الذي اتاه لتتجهم ملامحه و تتجعد قسمات وجهه كالاسد المكشر عن انيابه بغضب..
لم يرد علي ما قاله المتصل له بل اغلق و في لمح البصر قاد سيارته بسرعة البرق.. ليغادر القاهرة...
.....
بينما "حلا"كانت تشد أذر توأمتها خرجت لهم الفتاة المتبرجة نفسها قائلة بنبرة حادة أمرة اياهما : انتم واقفين زي الصنم انتي و هي كدا ليه ؟! يلا يا مزة منك ليها البسوا المايوهات دي بسرعة عشان تتصوروا بيها و بعدين نبقي نشوف شغلكوا .

صعقت الفتاتين و حدقتا بذهول و اشمئزاز يخالطهما خوف دفين الي يدها الممدودة اليهما بثياب السباحة الفاضحة ..

لم تتلقي منهما اي رد ، مما اثار ضجرها و جعلها تصيح فيهم : اوعي تكونوا مفكرين اننا فتحنها سبيل احنا بنزل اعلان ان كل حاجه مجاني و دا حقيقي احنا بس بنخلي الزبون مودل نصوره لزبون تاني و حظكوا حلو اوي و هتصوروا باغلي ماركة لتصنيع مايوهات .. يلا بقي بلاش تضيع وقت خمس دقايق و الاقيكوا خلصتوا.

قالت ذلك ثم توارت عنهم داخل احدي الغرف ..

اخذت "تقي"تنتفضت كمن صعقت لتوها بصاعقة كهربية .. عندما وجدتها "حلا" علي وشك الانهيار ألجمتها بكلتا ذراعيها تهزها بقوة لتعيدها الي رشدها قائلة : تقي فوقي انا هكلم "أدم" هو اللي هيقدر يساعدنا في الموقف دا و بابا ساعتها مش هيعرف و لا حتي الينا .

بدأت الأخيرة تستعيد رشدها عقب ما سمعته منها لتعقب عليه قائلة: ازاي؟ و هي خدت شنطنا وفيها الموبايلات اول ما دخلنا.

ابتسمت "حلا" بخبث و هي تخرج هاتفها من جيب سترتها الداخلي قائلة: قلبي كان حاسس من البداية ان في حاجة غلط ، عشان كدا عملت حسابي.

التمعت عيني "تقي" بوميض براق عندما رأت سبيلا لنجاتهما من تلك المصيبة فقالت: طيب اتصلي بادم او باي حد ينجدنا بسرعة يا حلا انا خايفه.

بالفعل ثانية واحدة وكان هاتف "أدم" يصدع بصوت اتصال من رقم مجهول ، اثار الريبة داخله ولكنه رد علي الفور محولا المكالمة علي سماعة اذنه الخارجيه ليتمكن من الرد اثناء القيادة : الوو .

ما ان وصل رده الي مسمعها حتي وضعت يدها علي فمها لتحد من انتشار موجات صوتها كي لا تصل الي اولئك الاوغاد ثم قالت بهمس يكفي ليسمعه هو وحده: الو انا حلا مهران اخت الينا مراتك يا كابتن ادم.

تجعد ما بين حاجبيه باندهاش من اتصالها به فهو يعلم بمقتها الدفين له من وقت زواجه بشقيقتها في القرية ، ولكنه ترك اندهاشه جانبا ليسألها عن سبب اتصالها به قائلا: اهلا يا دكتوره خير ان شاء الله.

_الحقنا بسرعة احنا في مصيبه.

اوقف السيارة علي جانب الطريق عندما شعر بالخوف يغلف نبرة صوتها المرتجفة ثم قال: اهدي .. اهدي و قولي لي انتم مين؟

_انا و تقي اختي محجوزين في شقة في المعادي ارجوك الحقنا بس ماتقولش حاجه لبابا و لا لـ الينا لو سمحت.

ادار محرك السيارة بسرعة قصوي ليعود ادراجه الي منطقة المعادي ثم قال بحزم :متخافوش انا جايلكم حالا ، اهدي يا حلا ، اطمني هوصلكم قبل ما يحصل اي حاجه.. بس عاوزك تسيبي الخط مفتوح عشان اسمع كل حاجه بتحصل عندك.

_حاضر.

اخفت الهاتف في جيب سترتها الخفي مرة اخري قبل ان يروها و تركت الاتصال مفتوحا بينهما..

علق هو اتصالها ثم اتصل علي رئيس الحرس في قصره قائلا : فؤاد حصلني علي العنوان دا بسرعة و خلي معاك واحد كمان من الرجاله .. بسرعه يا فؤاد.

_حاضر يا فندم.

عشر دقائق و كان "ادم" يقف بسيارته امام تلك العمارة التي اخبرته "حلا" بعنوانها .. ليجد "فؤاد" و رجل اخر مفتول العضلات كلاهما يرتدي نظارة سوداء و بذلات سوداء قاحلة في انتظاره .. تظهر هيبتهم ، من يراهم يهبهما من هيئتهما المرعبة.
ترجل من السيارة بسرعة يجري اليهما قائلا: الحقوني بسرعة يا فؤاد و هاتوا معاكوا حارس العمارة بسرعة ..
قبض "فؤاد" علي الحارس يدفعه للمضي قدما امامهم و هو يردد بخوف : انا معملتش حاجه يا باشا... في ايه؟
اجابه "فؤاد" بحزم: اطلع قدامنا وانت ساكت بهدوء.

اثناء صعودهما في المصعد سمع "ادم" صوت انثوي يصرخ في البنات و يسبهم ، و لكن ما زاد من غضبه و جعله يكشر عن انيابه عندما سمع صوت رجل يتغزل فيهما بوقاحة غير معهودة اقسم انه لن يرحمه ان مدت يده اليهما..

كان "فؤاد" يمسك بالحارس من تلابيبه أمام باب الشقة يأمره ان يفتحه بسرعة ، ليخرج المفاتيح الاحتياطية لشقق العمارة الموجودة بحوزته و هو يرتعد خوفا منهم جميعا ، و بسبب ارتجافات يده سقط منه اكثر من مرة ليسمعه من بالداخل و يصرخ الرجل قائلا: دخليهم جوا بسرعة.

سمع "ادم" ذلك من هنا و دفع الحارس بغضب بعيدا و فتح هو الباب بنفسه ليجد رجل و امراة يتوسطها بهو الشقه فقط ولا اثر للفتيات ..
اشار لـ"فؤاد" بيده ليسدد لكمة الي الرجل اسقطته ارضا و امسك بالفتاة من ذراعها لكي لا تتمكن من الهرب ، اما "ادم" نادي عليهم بـ اعلي صوته : حلا ، تقي.

خرجن من الغرفة هلعين اليه يبكون بقوة ليحتضنهما بعطف اخوي بعد ان وضع شقيقته مكانهما : اهدوا خلاص انتم في امان .. يلا بينا نخرج من هنا تعالوا.
اخذهما الي السيارة و ناول كل منهما زجاجة مياه و لم يتحرك من مكانه حتي هدأتا ليجذب انتباههم صوت سيارة الشرطة التي اتصل بهم ولكن ما فاجئة مجيئ "زين" معهم ..
ترك العساكر يقبضون علي عديمي الشرف هؤلاء و ذهب اليها ليجلس علي ركبتيه امامها يسألها بلهفة : انتي كويسه؟

تشفت الحب و الخوف في عينيه و كانت تود لو ترد عليه رد لائق و لكن قد يفهم بطريقة خاطئة الان فاثرت ارتداء قناع البرود مرة اخري ثم قالت و هي تدخى قدماها الي السيارة تعدل من جلستها و تحتضن توأمتها قائلة: الحمد لله شكرا لحضرتك.

ثم قالت لـ"ادم" الذي اكتفي بمراقبة تعجرفها علي صديق عمره ، ود لو عاتبها و لامها و لكنه قدر موقفها وسمع لها : معلش ي كابتن ادم ممكن توصلنا البيت.

اوما بالقبول لينصب "زين" جوعه و يقف مفطور الخاطر ليجد يد تربط علي كتفه نظر فـ وجدها يد صديقه الذي لطالما شعر بهمه و حزنه قبل البوح به ..

نظر نظرة بانه ليس الوقت المناسب .. للانهيار والاعتراف.

_هوصلهم و نتقابل في القصر بالليل هستناك.

_ان شاء الله.

انطلق ”ادم" ليوصلهم و خلال رحلة عودتهما حكت له "حلا" عن ما حدث معهما منذ البداية و عن سبب خوفها من معرفة ابيها و اختها الكبري بما حدث لهما ..
ليقطع وعدا علي نفسه قائلا:
_اوعدك اني مش هقول حاجه لحد و اعتبري الموضوع انتهي لحد هنا بس بشرط.

ازدردت ريقها بريب اخفته داخلها ثم سالته : شرط اي؟

_تعتبريني اخوكم الكبير و قبل ما تعملوا حاجه زي دي تاني تستشروني فيها ، عشان اللي حصل دا ميتكررش تاني.

ابتسمت "حلا" في حين ردت "تقي" عليه بارهاق: موافقين.

اما 'حلا" عقبت قائلة : شكرا يا كابتن ادم.

_ العفو يا حلا انتم زي دانه اختي.

شعرت "حلا" في تلك اللحظة بأ ن "ادم" ما هو الا مجرد ضحية لانتقام اثم و انه يحمل الكثير من الخصال المحمودة خلف شخصيته الشرسة.
...
بعد نصف ساعة كان يودعهما بعد ان اطمئن عليهما عائدا الي قصره الذي علي يبعد خمس دقائق عنهم.
.
دلف من بوابة القصر .. ثم ترجل من سيارته ليقف قليلا مع "فؤاد" يتحدث معه عما حصل : انا عوزك تعين لكل واحده فيهم حراسه بس من غير ما يعرفوا .. و لو شكوا في حاجه يبلغوني فورا..

_تمام يا ادم بيه .

_شكرا يا فؤاد ، اصرف مكافئة لك و للحارس اللي كان معاك و مش عاوز اي حد يعرف اي حاجه عن الموضوع دا.

_اوامرك يا ادم بيه.

اثناء حديثه مع "فؤاد" لمح "دانه" و هي تضحك بصوت عال بسبب تلك المياه التي ترشها بها " الينا" ، لم يراها تضحك هكذا منذ مدة طويلة ابتسم للهوهما و اقترب منهما لتتوقف "الينا" فور رؤيته و تتعلق عيناها به و بابتسامته الجذابة لتجده يجثوا علي ركبته امام "دانه" قائلا: حبيبتي عامله اي النهارده؟

زمت شفتيها كالاطفال ثم قالت بعبوس: حبيبتك زعلانه منك.

_و انا مقدرش علي زعلها ابدا.

اخرج من جيبه لوح من الشوكولاه المغلفة : و دي الشوكولاته اللي حبيبتي بتحبها يمكن تسامحني.

خطفتها من يده بغبطة و هي تلثم وجنته بفرح ثم سالته : فين شوكولاتة الينا بقي.

نظر اليها ليجدها قد وقفت باستكانة تراقبهما وعلي وجهها ابتسامتها المعهودة التي لا تفارقها من وقت ما خطت ذلك القصر..

كاد يشركهما اللعب ولكنه تذكر كذبها و بدل من ان يبتسم في وجهها تجهم و عبس متجاهلا تواجدها ليذهب الي غرفته. لتقرر اللحاق به و شرح سوء التفاهم الذي حدث بينهما و لكنها تدخشيت ردة فعله.. و بانها ستظهر امامه كاذبه..
.....
في تلكم الاثناء كانت "بدور' تقف في الشرفة تراقبهم باعين ثاقبة فهي اول من لاحظ توتر الاجواء بينهما قبل الجميع خصوصا بعد غياب" ادم" المفاجئ طول اليوم..
فتحت هاتفها و اتصلت باحدهم قائلة :الو .. انا عاوزك تخرس ماهر باي شكل ، هو لو اتكلم دلوقتي هيفضح سرنا اللي ادفن مع موت ناهد .. ومحدش هيرحمنا.. ا تصرف معاه انا مش مستعدة اخسر اخويا و ولاده و لا اخسر ... مهران ..


إعدادات القراءة


لون الخلفية