الجزء 46



استيقظت علي كابوس ارعبها لم تستطع النوم بعده أبداً .. أثرت الخروج من غرفتها الي الحديقة بعد أن أحاطت نفسها بشال منسوج من الصوف ليحفظ دفء جسدها فلا تبرد في ذلك الجو القارص ..
وصلت الي الحديقة لتجدها هادئة تملأها لسعات البرد المثلجة .. عقدت ذراعيها أمام صدرها لتحكم الشال عليها و هي تسير علي طول أحد حواف المسبح تتأمل صورتها المهتزة المنعكسة في الماء المرافقة لها في وحدتها و حزنها..
مشاعرها مضطربة حقا ، شعور بالشفقة علي طفولته المدقعة بالمآسي يشاجره شعور بالتقوى من تصرفاته القاسية معها .. شعور بالطمئنينة ينافره شعور بالخوف من الوقوع فيه سهواً ...
ما بينهما و ما يعيشانه يصعب تفسيره في الوقت الراهن..
لكن ما لم تكن تفهمه حتي الليلة ، تعامل عمته الفظ معها ..
جلست علي الأرجوحة في الحديقة بهدوء وهي مازالت تفكر ....
أعادت إحكام شالها عليها بعد أن تسرب منه بعضا من هواء الشتاء البارد ..
ثم خاطبت نفسها قائلة : ايه العلاقة اللي بتجمع عمة "أدم" بـ "ماهر" ابن عم بابا؟ ؛.. و ايه الحاجه اللي خايفه أنه يحكي عنها ؟! و مين ده اللي كانت بتكلمه ؟! و..
توقفت حينا سمعت صوت العشب يُدعس بالقرب منها ..
انتفضت عندما رأت ظل احدهم يقترب من خلفها..
انتصبت بفزع مبتعدة عن الأرجوحة التي كانت تجلس عليها..
لتجحظ عيناها حين رأت مُفِزعِها .. لقد كان هو نفسه من سرق النوم من عيناها ..و اجبرها علي التنزه في الليل وحيدة..
كان في حالة مزرية عيناه محمرة ، وجهه ذابلا ، يرتدي قميصه فقط ممسكا بسترته في يده تاركا المجال مفتوحا للسعات الشتاء تقرصه.. رأتها يتجه الي الأرجوحة يجلس عليها باستعياء دون أن ينطق حرفاً واحداً ..
مرة دقيقة حتي ازدردت ريقها و حسمت امرها في الاقتراب منه .. خطت اليه بخطي هادئة و مضطربة في آن واحد..
جلست بجواره لتجده متصنما في مجلسه سألته بخفوت عن حاله: انت كويس؟!
نظر لها بأعين قاحلة السواد علمت من اختفاء زرقتهما أنه ليس بخير ، اعتذرت علي الفور عندما خطر في بالها أن تكون هي وراء حزنه الدفين ذاك : أدم أنا.. أنا أسفه.. أنا مكنتش اقصد اللي حصل أنا..
قاطعها قائلا بصوت أجش : مش عاوز اتكلم في حاجة أنا تعبان .. تعبان .. و تعب...ااا...ن
لأول مرة تري اليأس متملكا منه هكذا ، كادت ترد عليه لولا أقترابه البطيء منها و الاستناد بـ رأسه علي منكبها قائلا بنبرة يشوبها الحزن : انا تعبت من كل حاجه ، كلهم بيكدبوا ماقبلتش حد صادق كلهم كدابين.. حتي انتي كدبتي ، و معرفش ايه اللي خلاكي تيجي تعترفي لي ..
ابعد رأسه عنها عندما وعي لنفسه و اثر ان يدفنها بين كفيه كي لا تظهر هزيمته جلية امامها ، فهو لا يرد شفقتها او عطفها ..
- بس انا عاوزه اساعدك.
قالتها بتردد و هي تربت علي كتفه بتوتر..ليبعد هو يده عن رأسه و ينظر لها بتشوش لا يعي لدموعه التي تجلت أمامها الان.. ولأول مرة تراه منكسرا هكذا زادت دموعه عندما احتضنها فجأة محيطا خصرها بذراعيه دافنا رأسه في صدرها كالطفل الذي يحتمي في حضن امه بعد شقاء كابوس مروع سلبه الهناء والراحة قائلا بصوت اجش: انا... تعبان.. تعبان ..جدا ..جدا . تعبان ..تعب...
صدمت من حالته المزرية تلك وزادت صدمتها عندما شعرت بثقل رأسه علي صدرها، وانقطاع أنفاسه ... همست له بزعر : أ ..أد ..م ..أدم ..
شهقت بفزع عندما تراخت يداه عنها و زاد ثقل جسده.... كان الحظ حليفها تلك الليلة فهذه فرصتها للهرب من براثنه قبل ان ينفذ حكمه عليه بتوثيق زواجهما شرعا وفعلا... و ينفذ شرطه الجاحد مقابل تحريرها من عقد زواجهما..
لا هي لم تتعلم الهرب يوما.. نحته جانبا ثم ذهبت الي الداخل لتعد بعد بضع دقائق و معها شرشف ثقيل و كوب قهوة و زجاجة عطر ..
دثرته جيدا حتي يدفأ.. ثم نثرت بعضا من العطر علي ظهر يدها و قربتها منه ليشهق متنفسا الصعداء بقوة مستعيدا وعيه..
كانت اول ما رأته عيناه ، وجهها القلق عليه .. جعله يشرد قليلا فيها حتي سألته قائلة بلهفة : انت سامعني؟
صرف نظره عنها و انتصب في جلسته لينزاح الغطاء عنه قليلا فتقوم هي بإحكام وضعه عليه ثانية ثم ناولته فنجان القهوة قائلة : اشرب شوية عشان تدفي.
كان كالمسير لأوامرها .. التقفه منها و لم يكابر كعادته و اخذ يرتشفه و هو ينظر اليها .. يتفحصها .. يطبع صورتها في ذهنه فيما سيقدم علي فعله سيجعله يعيد ترتيب أمور حياته كلها .
انتهي من قهوته ثم نهض ليدلف الي الداخل دون ان ينطق بحرف واحد..
- مش عارفه هقدر أساعدك ازاي ؟ بس انا أوعدك اني قبل ما اسيبك هبين لك انك كنت غلطان وان اقرب الناس لك هم السبب في تعاستك دي .
كانت تراقب دلوفه حتي اختفي بالداخل لتذهب بعده بقليل الي غرفتهما و تجدها فارغة .. علمت انه اثر الوحدة في حزنه كما اخبرتها شقيقته..
خلدت الي النوم لان ما ينتظرها الايام المقبلة يحتاج الي يقظة عقلها..
.............
مرت ساعات قلال و حل الصباح و لكن السماء كانت كالغاضبة من الارض فقد كانت ملبدة بالغيوم الثقال التي حجبت ضوء الشمس فلا يصل للأرض..
" استرها يا رب معانا , مخابرش كيف سمعت لزن حُرمه و خرجت في الجو الواعر ديه "
كان ذلك نواح العمدة "عبد الرحيم" وهو يقود سيارته باتجاه المشفي الخاص الذي حجز بها صديقه ، برفقته زوجته "سمية" ..
"چوزي يا عبد الرحيم بيه و معوزاش أبعِد عَنيه واصل"
نظر لها بغضب ثم اغلق نوافذ السيارة بعد أن رأي زخات المطر تضرب زجاج سيارته الامامي.. و هو يزفر بضجر بين الحين والآخر.. وصل بعد عدة دقائق الي المشفي و قال بحدة : انزلي انتي ي ست سمية .. و أنا مشوار اصغير أكده .. هعمله و أعاود من تاني .
توترت قليلا فهي لا تعرف احد هنا ماعاداه هو و زوجها الراقد بالداخل بلا حول ولا قوة.. رأي العمدة تلجلجها و عدم تنفيذها لأمره بالنزول فقال: ما نزلتيش ليه يا حچه؟
ردت عليه بخجل من جهلها : أصل أني معرفاش حاچه اهنه .. و لا عرفاش اوصل لاوضة فخر كِيف؟!
صاح العمدة بنفاذ صبر و هو يضرب عجلة القيادة بيده اليمني ويفتح باليسري بابه ليترجل من السيارة قائلا : الصبر من عِندك يا رب.
سار إليها يفتح لها الباب صائحا: انزلي بسرعة و الحجيني و إلا مش مسؤول عنك لو ضعتي اهنه.
انتفضت من مكانها بزعر تلحق به عندما رأتها يتجه إلى مدخل المشفي ..
دقائق و كانا يقفان أمام باب العناية المركزة متفاجئين ...
"أنا عاوز الحكيم المسؤول اهنه؛ دي مش مسشفي دي زريبه" كان ذلك صياح العمدة علي أحدي الممرضات عندما لم يجد صديقه في الغرفة والممرضة لا تعلم اين ذهب.. ردت عليه الممرضة "مينفعش كده حضرتك، اتفضل أسأل عن مريضك في الاستقبال أنا لسه ماسكه شفتي حالا و مش عارفه الحاله دي راحت فين "
كاد أن يكمل مشاجرته معها لولا تسلل صوت نحيب "سميه" إليه : مات ، مات ، مت يا نضري ، جبل ما أجوله أني ميسامحِته ..لع مامتش .. اااه يا مراري .ااااه ياااني.
- اجطمي يا حُرمه . اجفلي خشمك المصدي ديه ، دلوجتي هنعرف راح فين؟
سار ثائرا في الرواق ذاهبا الي غرفة المدير و لكنه تقابل بالدكتورة "ديانا" زوجة صديقه السابقه ، نداها متلهفا: فخر فين ي ضاكتورة ديانيه؟! ملجينهوش في العناية. !
قابلتهم بابتسامة مشرقة قائلة: لانه فاق من الغيبوبة و كل أوضاعه بقت تمام فنقلناه لغرفة عادية عشان يباشر العلاج الفيزيائي.
قطب حاجبيه قائلا : علاچ ليه ؟! هو بيه أي؟!
ردت بأسي قائلة : للأسف عنده شلل كـ..
لم تستطع ان تكمل بسبب هجوم "سمية" الشرس عليها : اكتمي خشميك , انا چوزي مجرالوش حاچه..
صاح فيها العمدة قائلا : وخري عنها دلوجيت و الا قسما عظما ابعتك علي البلد تستني چوزك ديه هناك.
ابتعدت علي الفور عنها نظارة اليها بشر تتوعدها , في حين الاخري كانت تمسد شعرها الذي بعثرته تلك المتوحشة..
اعتذر العمدة بتأفف من تصرفات النساء : ما تأخذيناش ي ضاكتورة بس احنا عوزين نطمن ..
أومأت له بتفهم قائلة : اتفضلوا اوريكم غرفته.
ساروا معها و العمدة يراقب ساعته بضيق بسبب تأخره عن موعده و تلك العقبة التي ظهرت في طريقه ..
أوصلها و لم يدخل معها بل غادر علي الفور : هغيب ساعة اكده يا حچه بعديها اچي اطمن عليه.
لم تكن منتبهة له بقدر ذلك الذي خطف انتباهها و لبها و عقلها .. ممدد علي الفراش بلا حول ولا قوة ..
دلفت واغلقت الباب خلفها ليرحل الاخران .. كلٌ الي وجهته.
جلست بجواره لتكشف عن وجهها وتظهر دموعها جلية تغرق عيناها تتفحصه بحزن لا تعلم اهي تناظره الان..؟؟
أنتظرته كل تلك السنوات , ليحصل له ذلك عندما تتزوجته ؟؟ يالا حظها العاثر..
انحنت تقبل يده بحزن قائلة : اني أسفه.. أني لو كنت عارفه اني وشي هيبجي شئم اكده عليك مكنتش جربت منيك واصل يا حبيبي.
كان مغمضا عيناه كي لا يري نظرات الشفقة والتشفي من احد.. ولكن كلامها اجبر عيناه علي ان تفتح منفذها لتراها كم شعر باستحقار كبير من نفسه تلك اللحظة عما فعله فيها..
عاد الي اغلاق عيناه قبل ان تشعر به حتي لا تلتقي بعيناها الذابحة و ليتركها تفيض بكل ما سجن بين جنبات روحها و قيدته دناءته داخلها ..
.............
في تلكم الاثناء في احدي السجون ..
كان احدي العساكر يمسك بـ"ماهر" من احدي ذراعيه يحثه علي السير قدما.. حتي وصلا الي باب خشبي يدخلهم الي غرفة مغلقة .. بها عسكران و أريكتان خشبيتان رفيعتان..كل منهما مقابلة للأخري بينهما مسافة كافية لعدم الاقتراب..
-قدمكم عشر دقايق بس و الزيارة تخلص.
قالها العسكري بحزم و هو يجلسه علي احدي الارائيك بعيدا عن ذلك الزائر.. لينصرف بعدها..
لوي" ماهر" فمه بابتسامة خبيثة ثم قال : معجول العمدة بذات شخصيته چاي يزرني في السچن يا تري سبب الزيارة أي؟ لتكون اتوحشتك إياك ؟ هههههههه..
نهي حديثه الساخر مقهقها .. ليتحدث العمدة بحدة قائلا : لع .. بس في رسالة لازم تعرفها يا ولد السيوفي ..
عقد حاجبيها و كأنه لا يعرف ما الرسالة و من ارسلها علي لسان ذلك القابع أمامه : رسالة أي؟!
برقت عيناه التي امتلأت بالوعيد و بنبرة مغلفة بتهديد خفي اردف قائلا : هتخرج من اهنه في حالة جفلت خشمك العفش ديه و دفنت الماضي ..و مانبشتش فيه واصل .
نظر اليه مليا لا يدري أيثق بهم ؟! أم قد يخدعوه ؟! هو بالنهاية يريد الخروج من ذلك الحبس الخانق.. بعد عدة دقائق من التفكير جهر بنيته : بص يا عمدة الماضي هيفضل منبوش اكده لحد ما أشوف نور الشمس من تاني .. غير اكده الناس هيعرفوا باللي حُصل زمان كليتهم و أولهم ابن عمي الغالي مهران بيه وعليا و علي أعدائي.
- انت اكده بتأ...
قطع حديثه العسكري و هو يجهر قائلا : الزيارة انتهت..
ثم اقترب ليسحب "ماهر" الذي ظل ينظر لـ"عبد الرحيم" بأعين الذئب الذي سيريهم مكره قريبا ان لم ينفذوا له مطلبه..
...........
في تلكم الأثناء .. في قصر أدم الشرقاوي..
كانت تقف أمامه بعد ان استدعاها لتأتي اليه في امر هام ..تراقب صمته وهو يقف أمام نافذة مكتبه محدثا في زخات المطر وهي تتخبط بتراب الأرض .. تغسل الأشجار وكل ما تسقط عليه , يتمني لو بمقدورها ان تغسل قلبه المعذب و تعيده اليه نظيفا لا حقد ولا كره ولا ضعف ولا حزن فيه..
تنهد بسقم و عيناه محمرة كالدماء لا يريد ان تراها يكفي ضعفه بالأمس أمامها لقد أصبح وجودها خطرا عليه .. هو لن ينتقم منها ..لقد تراجع عن انتقامه ..هو ليس حقيرا إلي هذا الحد ..
قطع تفكيره الصامت صوتها الأنثوي الذي بات يحب سماعه مؤخرا : انت طلبت تشوفني؟!
كان يود قول الكثير و تبرير موقفه ولكن قلبه الجاحد أصدر أمره للسانه لينطق باندفاع و لامبالة زائفة و صوت أجش مميت : انتي طالق .
..........


إعدادات القراءة


لون الخلفية