الجزء 47


انتظر صدور أي ردة فعلٍ عنها و لكن أذنه لم تلتقط اي صوت ...
اضطرب انتصاره و استدار عندما سمع صوت ارتطام أتٍ من خلفه .. لتشخص عيناه عندما رأيها ممددة علي الأرض بلا حراك ...
في لمح البصر كان بجوارها يهتف باسمها متلهفا : الينا ..الينا..
زادت ثورة قلقه عندما لم يتلقي منها ردا , فما كان منه الا نهض و فتح الباب صائحا بالخادمة لتأتيه .. ثم عاد اليها ليحملها و يخرج بها الي غرفتهما..
- أيوه يا أدم بيه ؟ هاااا.. حصل ايه؟! الينا هانم مالها؟
- معرفش .. اطلبوا دكتور توفيق يجي بسرعة .
عادت أدراجها بعد أن كانت تتبعه وهو يصعد الدرج مرددة بتلجلج : حاضر .. حاضر ..استر يا رب .. استر.
أكمل هو صعود الدرج حتي وصل بها الي غرفتهما ليدلف اليها و يضعها برفق علي الفراش كأنها شيء ثمين يخشي خدشه أو انكساره.. ثم جلس بجوارها ممسكا بيدها يمسح علي وجهها برفق ..
..............
في تلك الأثناء كانت " دانه" قد وصلت الي المشفى وصعدت الي مركز المعالجة الفيزيائي الذي اتفقت مع " عدي " أن يتقابلا به .. و كانت عمتها "بدور" برفقتها .. لم تستسيغ وجودها معها ولكنها اضطرت للموافقة علي مرافقتها بعد إلحاح شديد منها..
تركتها عمتها قليلا وذهبت الي الممرضة تسألها عن "عدي" : الدكتور عدي المعالمي موجود؟!
ردت بابتسامة تسع ثغرها : ايوه يا فندم..
ثم استطردت تسألها و هي تنظر الي "دانه" الراكدة علي كرسيها : حضرتها دانه الشرقاوي الحالة اللي دكتور توفيق موصي عليها صح ؟!
نظرت "بدور" الي "دانه" لتجد علامات الامتعاض والغضب ممزوجة علي قسمات وجهها من تلك الحمقاء لترد عليها بجفاف و صرامة : من فضلك عرفي دكتور عدي اننا وصلنا .
القتها بنظرات مميتة ثم اخذت "دانه" وانصرفت الي مكتب الطبيب المنشود دون ان تنتظر رد من تلك البلهاء.. لتعقب الاخري قائلة باندهاش : هي مالها دي ؟! بتبصلي كأنها هتبلعني بعنيها كدا ليه؟!
ثم تأففت و هي تمضي في طريقها قائلة : امتي ربنا يتوب عليا من الشغلانه الهم دي بقي؟! يارب.
.........
كان يجلس في مكتبه ممسكا بصورتها التي لا تفارقه أينما انتقل فهي موضوعة دائما علي مكتبه سواء الذي كان في برلين او الذي حصل عليه هنا.. كان يتنفس بثقل يشعر بالخواء داخله فقد كان حبها يملأه و يفيض علي الدنيا من حوله فيجملها .. هو لا يعلم متي أصبحت الدنيا مسودة من حوله و لا يعلم متي حان دوره مع الدنيا لتريه قُبحها..
ابتسم عندما تذكر تحديها المستمر له .. و رهاناتهما التي لم تكن تنتهي عندما كانا معا .. لم يذق هوان الخسارة يوما ولم يقبل بالهزيمة أبدا و لكنه أمامها يجد طعما اخر للخسارة ..
تسلل الي مسامعه صوت طرق علي باب مكتبه أجلاه قسرا من خلوته بذكرياته مع مليكة قلبه..
وضع الصورة في موضعها أمام ناظره ثم مسح علي وجهه بيده ليستعيد طبيعته ثم جهر بصوت عال : ادخل.
فتحت "بدور" الباب علي مصرعه ثم عادت لتقف خلف "دانه" لتدفع كرسيها الي الامام و تدلف معها للداخل..
لينهض "عدي" من مكانه والمقت ينهش قلبه لتلك العائلة , ابتسامة زائفة ارتسمت علي ثغرة في الحال و هو يمد يده ليصافح "بدور" مرحبا بها : أهلا بدور هانم ..
بادلته قائلة: أهلا بيك يا دكتور.. أتمني منكنش أزعجنا حضرتك لما جينا بدري عن ميعادنا .
نظر بطرف عينه الي "دانه" ليجدها تنظر له بتحذير ليبتسم بخبث و يرد بمكر : لا أبدا يا بدور هانم .. بالعكس دا هيدي لي فرصه اتكلم مع انسه دانه شويه قبل ما نبتدي الجلسه... حابب اعرف بعض الحاجات عن حالتها قبل ما نبدأ و مكنش ينفع اقولها في رساله زي ما بعتت لي رسالتها امبارح ...
نظرت باستنكار لـ "دانه" لتجدها تهرب بعينها بعيدا عنها .. فما كان منها الا ادعاء معرفتها المسبقة برسالة "دانه" إليه : فعلا انا طلبت منها تبعت لك رساله تعتذر منك عن مقابلتها لك أول مرة .. و تأكد لك علي الميعاد.. اتمني تكون قبلت اعتذارنا .
ابتسم بمكر لجهلها بما دوَّنته ابنة اخيها في رسالتها ثم قال مسايرا لها : طبعا يا هانم .. بس ليا رجاء عند حضرتك؟
- ايه هو؟
- أتمني تسبيني مع أنسه دانه لوحدنا شويه عشان احدد الحالة النفسية اللي كانت مخليها رافضة تتعالج !! .. لان دي اهم نقطة في مشوار العلاج.
- تمـ...
لم تتمكن من اكمال ردها بسبب هاتفها الذي صدع لينبهها عن وصول اتصال كان قد أتاها في نفس اللحظة.. اعتذرت منه لتري من المتصل : معلش لحظة واحدة.
اخرجت الهاتف من حقيبتها لتتغير تعابير وجهها و حالتها فور رؤية اسم المتصل : تمام يا دكتور عدي انا هستني برا لحد ما تخلصوا بعد اذنك.
قالت ذلك علي عجالة و هي تعبث بهاتفها بانشغال.. ثم خرجت.. كان ذلك "عبد الرحيم"يخبرها بما حدث معه في زيارته لـ "ماهر"..

اما "عدي" فابتسم فور خروجها ابتسامة ذئب ماكر اوقع غزالة في شباك كيده.. اقترب من "دانه" يتودد لها بخبث مكنون : اسمحي لي أساعدك.
أوقفته بيدها التي رفعت في وجهه لتوقفه : انا بعرف اساعد نفسي.. اتفضل اقعد علي مكتبك عشان نتكلم بسرعة قبل ما عمتو ترجع.
أومأ بفضول لمعرفة ما ستبوح به و جلس علي مقعدة ينتظر تحدثها .. أخذ يراقبها قليلا و هي تنظر الي يدها المتشابكة ظن أنها متوترة من وجدها معه مما اسعده لأنه بذلك يثبت انه يسير في الطريق الصحيح ولكن ما جعله يجأش ؛ عيناها الثاقبة التي رأي التحدي يملأها حين ناظرته ..
تحدثت إليه بثقة لا متناهية : انا عرفه انك قريب الينا مرات أخويا .
مدت يدها بجرأة الي تلك الصورة الماثلة أمامه علي المكتب تديرها اليها و علي ثغره ابتسامة باردة ثم اردفت قائلة : وانك كنت خطيبها .. سابقا قبل ما أدم أخويا يتجوزها وتبقي مراته.
بدأت أعصابه تثور بسبب طريقتها المزعجة في استفزازه .. صك أسنانه بغيظ منها ثم قال : قصدك قبل ما يخطفها .
ردت عليه بغضب : الزم حدودك أدم اتجوزها بموافقتها .. و لعلمك الينا حكت لي علي كل حاجه..
فغر فاه عندما سمع اخر ما قلته و ارادت أن تُعِلمهُ اياه .. ابتلع ريقه بتوتر ثم قال بصوت محشرج : هي اللي ..
-لا.. هي متعرفش اني هقابلك .. بص يا دكتور انا عارفه كويس انت اخترت تكون الدكتور اللي هيعالجني ليه ؟!.. و انا جايه اقول لك انك لو مفكر انك هتقدر توصل لـ الينا عن طريقي تبقي غلطان .. اللي انت متعرفوش ان أدم بيحبها .. و ان الينا كمان حبته.. فالاحسن لك انك تبعد عنهم .. و عن عيلتي كلها..
لم يخب قوسها في رمي سهامه فلقد أصابته جميعها في مقتلٍ .. و لكنه لا يستسلم بهذه السهولة ..
جلس مرة أخري علي كرسيه ثم تنفس الصعداء أكثر من مرة ليعاود النظر اليها و يلتقط دفترة و هو يضغط علي قابص قلمه الأسود متأهبا لتدوين استفساراته الطبيه : ايه مشكلتك مع جلسات العلاج الفيزيائي؟
قضبت حاجبيه باستنكار ثم قالت : نعم؟!
- اللي سمعتيه حضرتك .. لو مشكلتك معايا فانتي ملزومة تستحمليني لحد ما يتوفر في القسم دكتور بنفس كفاءتي.. لان انا الوحيد اللي اتعاملت مع حالات كتير شبيه بحالتك بره وكلهم اتعالجوا.. وانتي عارفه ان الطب بره غير هنا تماما..
صاحت فيه : انت لو اخر دكتور علي وجه الارض انا مستحيل أ..
- انتي خايفه من ايه؟
- انا مش خايفه بس مش عاوزه احطملك احلامك الكبيره لان لو انت نجحت في علاج كل حالاتك السابقة فانت هتفشل في علاج حالتي .. لان العلاج بيكون متبادل بين المريض و المعالج... يا .. يا دكتور.
- أنا عمري ما خسرت في تحدي دخلته.. و انا اتحداكي انك في ظرف تلات شهور هتمشي علي رجلك تاني ..
-تمام وانا قبله بتحديك .. بس بشرط تبعد عن طريق الينا نهائي و تسبها تختار هي عاوزه تكمل مع مين..
- انا خلال شغلي مابتكلمش في حياتي الخاصة حضرتك.. بس موافق علي شرطك و بكدا احنا اتفقنا العلاج هيبدأ من دلوقتي .. اتفضلي نعمل اشعة و بعدين نحدد الباقي لما تطلع.
نهض عن كرسيه و دفع كرسيها للخارج ليلتقي بـ "بدور" التي كانت تتحدث بانفعال علي الهاتف لولا ان رأتهم و اغلقته علي الفور لترسم ابتسامة علي ثغرها تخفي خلفها انفعالها .. وتستفسر منه عن حالة ابنة اخيها : طمني يا دكتور.
-اطمني يا بدور هانم انا هاخد انسه دانه اعملها اشعة مقطعيه.. عشان نبدأ في الجلسات بعد بكره ..
التمعت عيني "بدور" بغبطة عارمة و عانقت "دانه" بحنان : هتبقي كويسه يا حبيبتي و هتمشي تاني انا متأكده من ده.
ابتسمت لها و بالها مشغول بما حدث في الداخل بينهما..
- بعد اذنك عشان يجهزوها للأشعة.
ذهبوا جميعا الي غرفة الاشعة لتجهز "دانه" و يبدأ "عدي" في تشخيصها من جديد...
...........
عودة مره اخري الي قصر أدم الشرقاوي ..
وصل الطبيب "مصطفي" الذي ارسله دكتور "توفيق" بدلا عنه لانشغاله بامر هام ليكشف علي "الينا" .. اخرج سماعته وبدأ في الكشف عليها وتشخيص حالتها تحت أنظار "أدم" المترقبة المتلهفة لرؤيتها واعية مرة أخري ..
-طمني يا دكتور من فضلك..
ازال السماعة الطبية عن أذنه ووضعها في حقيبته ثم قال : المدام ضغطها واطي و احتمال كبير تكون مصابة بفقر الدم.. انا هعلق لها محلول دلوقتي و بعد شويه هتفوق ولما تستعيد كامل وعيها تعمل التحاليل دي فورا عشان نحدد نسبة الهيموجلوبين في الدم.
-تمام يا دكتور.
قام الطبيب بتعليق المحلول لها ليغذي أوردتها بما فيه و سائر جسدها..
في تلك الاثناء خرج "أدم" ليتصل بـ حماه والد "الينا" : ايوه يا عمي ممكن تبعت البنات يقعدوا مع الينا شويه لانها ملت هنا وانا عندي سفريه طويله شويه... شكرا لحضرتك ..... انا هبعتلهم السواق ياخدهم بكره الصبح ان شاء الله.
انهي اتصاله ثم عاد الي الداخل ليجدها قد بدأت في استعادت وعيها و سماع همهماتها... اقترب منها و اخذ يناديها باسمها : الينا.. الينا.
كانت تهمهم بصوت ضعيف : بـ..بـا..بابا.. تـ.تقـ..تقي .. حـ..حلا ..أ..أد.. أدم.
اتسعت حدقتيه حينا سمع اسمه الذي نطقت به شفتاها ... اقترب منها اكثر ليتأكد انه لم يكن وهما ما سمعه ذلك حينما كررته مما جعله يهمس لها قائلا : نعم يا حـبـ..
فتحت عيناها بالكامل في تلك اللحظة مما ألجم لسانه و جعله يبتعد عنها قليلا.. : انتي كويسه؟
طرفت بأهدابها أكثر من مره بالايجاب ، ليردف بصوت أجش : الحمد لله .. أنا كلمت والدك و طلبت منه يبعت لك البنات يقعدوا معاكي كام يوم.. و مقولتلش علي اللي حصل.
- شـ..شـكـ .. شكرا.
نهض ليرحل قائلا : حمد لله علي سلامتك.
ردت عليه بخفوت: الـ... اللـ... الله يسلمك.
كاد ان يغادر لولا أن قبضت بيدها علي معصمه توقفه نظر الي يدها ثم سألها : عاوزه حاجه ؟
- عاوزه اقول لك علي حاجه مهمة بخصوص عمتك.
قضب حاجبيه و ردد مستنكرا: عمتي؟!
...............
بعد مرور عدة ساعات..
كان "أدم" يقف أمام باب القصر يملي تعليماته علي حراسه : انا عاوزكم تفتحوا عنيكم كويس مش عاوز الدبانه تعدي .. و عاوزكم تاخدو عربية حراسه تحرس عربية الاسعاف اللي هتوصل فخر بيه لهنا.
- أوامرك يا أدم بيه.
- اتفضلوا.
اما "دانه" و "بدور" فقد عادا من زيارتهما للمشفي بعد ان حددا موعد اولي جلسة في العلاج..
علمت بقرار "أدم" في احضار والدهما الي القصر .. ولكنها لم تعقب بل أثرت الذهاب الي غرفتها لتجلس فيها شاردة الفكر في اخر شيء قاله "عدي" لها قبل ان ترحل ..
" متحاوليش تهربي من الجلسات عشان لو كنتي في بطن الحوت هجيبك !!.. ولو حكم الامر هجيلك أوضة نومك اخدك من علي السرير بنفسي عشان تحضري .. صدقيني انا علي ستعداد اعمل المستحيل ولا اني اخسر التحدي قدامك..."
خاطبت نفسها قائلة : مجنون .. مش عارفه الينا كانت بتحبه ازاي؟!
قاطعها صوت طرق علي الباب : ادخل..
نظرت لتجده "أدم" كان قد اتي ليطمئن عليها بعد أن علم من عمته أنها قد وافقت علي استكمال علاجها ..
اقترب منها يقبل رأسها بحب قائلا : الف مبروك يا حبيبتي .. رغم اني معترض علي الدكتور بس طالما انتي موافقه عليه انا مقدرش اقولك حاجه ..
- الله يبارك فيك يا حبيبي.. هو اختيار دكتور توفيق و اكيد هو احسنهم متقلقش عليا.
- ربنا يكملك شفاكي علي خير واشوفك بتجري علي رجليكي من تاني .
- ان شاء الله يا حبيبي..
مسد علي شعرها برفق ثم قال و هو يداعب خصلات شعرها :انا عاوز اقولك لو قراري في ان فخر بيه يجي يقعد معانا هنا مضايقك او ممكن يأثر عليكي أنا مـ...
قاطعته نافية : لا يا حبيبي دا مهما كان والدنا و احنا لازم نقف جمبه عشان ربنا أمرنا بـ دا مش عشان حاجه تانيه .. جايز مش هنقدر نسامحه علي اللي عمله فينا زمان بس دا مش هيأثر علي واجبنا اتجاه حضرته .. أنا بس محتاجه فترة علي أما اتعود علي وجوده و بعدين هيبقي عادي..
اغرورقت عيناها بالدموع و هي تبتلع تلك الغصة المريرة العالقة في حلقومها فتلك المرة الأولي التي ستبتعد فيها عنه ثم قالت : و الفترة دي انا قررت أقضيها في المستشفي .
يتبع......
اقتباس من الفصل الأخير ..
( اتفضلي دعوة فرحي علي هدي بنت عمي ..)
التقطتها منه بأيد مرتعشه لتفتحها و تجد اسمه قد دون بجوار اسم فتاة اخري و ليس اسمها .. لوعت قلبه حفيا وراءها حان دوره ليعذبها بناره.. تستحق ذلك العذاب حقا..!
.........


إعدادات القراءة


لون الخلفية