الجزء 36


كان يجلس في السيارة يحدق في ذلك الحشد الذي يسد الطريق الزراعي الموصل لأغوار القرية ، توقف السائق لينزل هو علي الفور متلجلجا و هو يمسك بعباءته كي لا تعرقله وامامه الغفر يبعدون الناس ليمر من بينهم و ما ان اقترب حتي وجد شاحنة كبيرة تسحب السيارة من المياه ليظهر نصفها علي الطريق والنصف الاخر مازالت المياه تغمره ..اقترب منهم ليستفسر عن من كان فيها ... و لكن اوقفه صوت سيارة "ساري" الذي ترجل منها بسرعة حتي انه قد ترك بابها مفتوحا واندفع نحوه يسأله بوجل: مين اللي في العربية ؟ أدم؟ ..أدم اللي فيها؟؟
- اهدي يا ولد ، لساتنا مانعرفش مين فيها.
- و مستنين ايه؟!
انطلق ناحية الشاحنة التي تسحب السيارة و تبعه "ساري" نحوها رغم اعتراض العساكر و محاولتهم منعه من الاقتراب..كان مشهد مروعا حقا والسيارة ترتفع لاعلي والمياه تنفجر كالشلال من نوافذها الاربعه.. اندهشا عندما رأوا ان السيارة فارغة .. فاستفسر العمدة من احد العساكر عن ملابسات الحادث : اللي في العربيه ماتوا ولا اي اللي حصل يا ولدي طمنا.؟؟
-اطمن يا عمدة العربية كان فيها حُرمه و راجل كبير .. الحُرمه قاعده هناك اهه .. و الراجل راح المستوصف...
تنفس "ساري" الصعداء عندما علم ان ذلك الحادث لا يخص اخيه و لا يمت إليه بصلة ..نظر العمدة في اتجاه تلك الفتاة التي تحدث عنها العسكري ليُمعِن النظر بها قليلا لتتبين له ملامح "الينا" ابنة صديقة و زوجة "أدم" تسلل اليه صوت "ساري" و هو يشكر الله قائلا : شكرا يا الهي .. الحمد لله ان العربية مكنش فيها أدم...
رد العمدة علي الفور : بس كان فيها مرته...
صاح باقتضاب قائلا : ماذا؟ تقصد ايه يا عمدة ؟
لم يرد عليه بل سار ناحية تلك التي تجلس علي احدي المصاطب الموجودة امام احد البيوت تلتف ببطانية تغطي جسده المرتجف..تبعه "ساري" الذي ما ان لمح وجهها حتي اندفع نحوها يسبقه اليها ليدفعها عن الارض قائلا : الينا.. هل انت بخير؟
أومأت له بالايجاب بعد أن دققت النظر فيه قليلا لتعلم انه شقيق زوجها.. لف ذراعه حولها ليعدل ذلك الغطاء عليها بعد ان انزلق قليلا عن كتفيها .. كاد العمدة يعترض طريقه ولكنه امتنع قائلا : اعتقد يا عمدة ان زوجة اخي بأمان معي أكثر...
تركه يأخذها هو الي البيت لتبعد عن ذلك التوتر .. بعد أن لمح في عينيه انه رجل يعتمد عليه .. اما "الينا" فكانت شاحبة لا تقوي علي الاعتراض ولا علي ذراعه الذي حط علي كتفها..دفعها برفق الي سيارته يساندها ثم قال : اعلم انك منزعجة من ذراعي المحيط لكتفك ولكن تلك الطريقة الوحيدة التي تحول دون انزلاق ذلك الغطاء عن كتفك الذي يظهر من خلف ثوبك الذي تمزق..
ابتسمت ابتسامة صغيره له ليردف قائلا : حمدا لله علي سلامتك .. زوجة أخي...
سايرته اخيرا في انجليزيته وقالت : شكرا لك...
ساعدها في الجلوس علي مقعد مرافق السائق ثم ذهب ليجلس علي مقعده وانطلق بها عائدا بسرعة الي البيت..
...........
في تلك الاثناء كان "أدم" قد وصل الي قصره .. و كان أول شيء قام به هو التوجه سريعا الي غرفة شقيقته .. لقد اشتاق اليه كل الشوق ..دلف علي الفور دون ان يقرع الباب بعد ان علم من عمته انها جالسة في غرفتها وحيدة ترفض ان يتبادل معها احد اطراف الحديث..التفتت بكرسيها لتوبخ من اقتحم عليها غرفتها بهذه الطريقة و لكن ألجم لسانها والتمعت عيناها عندما رأته مشاعر مختلطة من الاشتياق والحزن والفراق هاجتها لتجعلها تثور علي كرسيها تتمني لو تجري اليه ليغمرها بين ذراعيه ..صاحت باسمه وعيناها تزرف دمعا :أدم ..أدم...
رفعت ذراعيها نحوه و هي تهز كرسيها لتقع عل الارض وتكون ذراعيه هي وسادتها الناعمه التي تحول بينها وبين الارتطام كليا بتلك الارض المتصلبة.. غمرها بشوق بالغ و اخذ يقبل رأسها معتذرا : أنا أسف ، سامحيني .. والله ما هبعد عنك أبدا .. أنا أسف ...
لم تقوي علي الرد بل اخذت تشد علي سترته بيدها وهي تدفن وجهها في صدره و شهقاتها تعلو و ارتعاشات جسدها تزداد..اخذ يمسح علي شعرها بحنان : هشش. اهدي يا حبيبتي انا جمبك هنا .. خلاص..ردت عليه بصوت متقطع لكثرة شهقاتها : .ا..اتج.. اتجوز... اتجوز .. نز..نزل .. عشان..يتج..
رفع رأسها عن صدره قليلا و هو يقول بلهفة : احنا ملناش دعوه بيه .. حياتنا مكنتش وقفه عليه ابدا .. احنا اعتبرناه مات من زمان .. متفكريش فيه تاني مفهوم...
أومأت له بالايجاب ، ليعود ويغمرها بـ ذراعيه مرة أخري.. لتقول هي : متبعدش عني تاني..
-انا ماببعدش عنك غير في الشديد القوي..
-حاولت اتصل بيك كتير وموبالك كان مقفول.. ليه؟
-كنت مسافر يا حبيبتي و لسه راجع....
ابتعدت عنه وهي تنظر له بأعين زجاجية من أثر البكاء: هاتلي موبايلك...
استنكر طلبها ولكنه اخرجه من جيبه وناولها ايه لتقوم هي باغلاقه نهائيا و القائه بعيدا ، ليلومها برفق : أي اللي عملتيه دا ي دانه؟
-عاوزاك تفضلي شوية .. انا تعبانه وخايفه ارجع لتعبي القديم تاني.. ارجوك ساعدني يا ادم....
اغمض عينيه و شد علي اهدابه ثم جذبها اليه مرة الاخري .. يفكر في الطريقة التي سيخبرها بها عن زواجه............
.......
في الصعيد.. خصيصا في بيت العمدة..كانت " ديانا" تجلس في ردهة البيت تجري بعضا من اتصالاتها .. و هي تنتظر عودة ابنها و العمدة... لتجذبها صوت أقدام أحدهم تأتي من أعلي الدرج .. نظرت لتري رجلا يرتدي ثيابا متحضرة عن الثياب التي اعتادت علي رؤية الرجال يرتدونها في القرية.. يدب الشيب في بعض من شعره ليختلط بشعره الاسود.. يظهر عليه الوقار والرزانة.. خمنت أن يكون هو نفسه ضيف العمدة الثاني.."مهران السيوفي"أما هو فلفت انتباهه ثيابها التي تعتبر فاضحة بالنسبة لثياب النساء هنا و شعرها الاشقر المكشوف للعلن ..رأته يقبل عليها فما كان منها الا ان نهضت لتصافحه قائلة: اهلا بك مهران بيه ..اعرفك بنفسي أنا دكتورة ديانا نصري والدة ساري الشرقاوي....
صافحها مسايرا اياها في لغتها : اهلا بك دكتورة ديانا...
بعد ان افصحت له عن هويتها لم يجد بدا من الجلوس معها لذلك كان سيغادر لولا انها منعته قائلة : أرجو أن لا تكون اقامتي هنا قد سببت لك إزعاجا ...لم يلتفت لها بل قال و هو يوليها ظهره : البيت ليس بيتي كي احدد فيه من يقيم به .. ثم اني رجل شرقي يعرف الأعراف جيدا...
اعجبت برده الرزين و فكرت ان تعرض عليه ان يشاركها في الجلوس و تناول القهوة معا و لكن قاطعها ولوج " ساري" و هو يساند " الينا" التي تعطس بشكل مفرط....
ما أن رأيها والدها حتي اندفع بسرعة ليأخذها بين ذراعيه قائلا : فيه ايه يا الينا ايه اللي حصلك ؟ و رجعتي امتي؟رد "ساري" نيابة عنها قائلا : هي بخير .. محتاجه بس شوية راحه و دفي .. ياريت تطلع لأوضتها وانا هقول لحضرتك عن كل حاجة نيابة عنها ...
بالفعل نادي "مهران" علي الفتيات .. لتأتيا و تغمران شقيقتهما و تصعدا بها الي غرفتها تحت أنظار "ساري" الذي كان يراقب تلك المشاغبة الصغيرة.. لم يرها منذ مدة .. أصبحت ذابلة... لا تصرخ..
-ها يا بني احكي لي...
انتبه "ساري" له ليشيح بنظره عنها وينظر له متنحنحا : في الحقيقة .. اللي عرفته من مدام الينا .. ان أدم وراه شغل مهم في القاهرة وبعتها مع السواق لهنا وهي في طريقها السواق مقدرش يمشي في الطريق لان العجل غرز في الطين فضل يدوس بنزين لحد ما العجل فلت بس للاسف الطريق كان ضيق و العجل طلع من الطين و مقدرش يسيطر عليه و وقعوا في المايه و هي خرجت من شباك العربية جنبها وانقذته وطلعت به علي التراب..كان قلب "مهران" ينتفض فزعا فلم تكن أذنه من القط سرد ذاك الساري بل قلبه الذي مكث ينتفض فزعا.. انتصب من مكانه يصيح : و ازاي جوزها يسيبها تنزل مع سواق غريب؟..
حاول "ساري" تهدأت الموقف والدفاع عن أخيه قائلا : اكيد كان مضطر ...
-لا مفيش حاجه اسمها مضطر .. انا هعرف شغلي معاه لما يجي...
قال ذلك ثم ذهب الي ابنته ليطمئن عليها ليجدها تغط في النوم بعد أن ساعدنها الفتيات في تغير ثيابها .. و اطعامها القليل من الطعام لتأخذ الدواء و تنم..أما "ساري" فكان يحاول الاتصال بأخيه ليخبره بما حدث ولكن هاتفه كان مغلق.. زفر بضيق و هو يلقي بهاتفه جانبا .. و والدته تراقبه .. ترفض ان تناقشه في أي شيء الان .. تراه منزعج و لكن لا تعلم أي سبب وراء انقلاب مزاجه هكذا..قاطعهم دلوف العمدة و بحوزته حقيبة صغيرة .. القي التحية عليهم قائلا : سلام عليكم...
رد عليه "ساري": وعليكم السلام .. -اخبار مرت أخوك أي يا ولد دلوجيت؟
- كويسه .. بس أدم قافل موبايله.
- ممممم ، طيب دي شنطة هدوم مرت اخوك و شنطة يدها فيهم حاجات مهم جووي .. ابقي طلعها لحد من خواتها البنات عشان يوصلوها لها..ثم نظر الي "ديانا" وقال : تعال معاي يا ضاكتورة .. سالم مستنين في المُنضرة...
سارت معه لتقابل ابن عم زوجها وتطلب منه ما تريده..
..............
بينما في قصر أدم الشرقاوي...
كان أدم يتناول الطعام مع شقيقته براحة بال بعيده كل البعد عن أي ضوضاء تقلق صفو تلك اللحظات ..كان يطعمها كأنها صغيرته .. و يدللها كأنها طفلته.. مما جعل "بدور" تبتسم فرحا لعودة السعادة اليهم من جديد..وجدت هاتفها يرن برقم مجهول دفعها الي ان تركت الشوكة من يدها وخرجت من غرفة الطعام لترد .. : الو...
ليأتيها صوت أنثوي : مرحبا .. سيدة بدور؟
ردت بنفس لغة المتصلة : نعم انها أنا.. من أنتي؟
-أنا دكتورة ديانا نصري .. لابد أنك تعلمين من أكون بالظبط ....
شخصت عيني "بدور" عندما افصحت الاخري عن هويتها .. و لم تعرف بماذا تجيبها ولا لما تتصل تلك المرأة بها في ذلك الليل..في حين أن "أدم" كان في الداخل يتهيئ ليفاتح " دانه " في أمر زواجه..
-ديانة حبيبتي انتي مش نفسك أتجوز و اجيب بيبي صغير يقولك يا خالتو؟وقعت الشوكة من يدها واصفر وجهها .. رد فعل لم يكن يتوقعه "أدم" أبدا .. عبرت من خلاله عن توترها من الفكرة نفسها .. هذا عندما ناقشها فقط فكيف لو علمت أنه قد تزوج بالفعل..
..............نهاية الفصل..


إعدادات القراءة


لون الخلفية