الفصل الثاني: الرحيل المرير ونزوحه إلى تركيا

مع مرور الأيام، تدهورت الأوضاع في سوريا بشكل أكبر. الحروب الصغيرة أصبحت معارك شوارع، والانفجارات لم تعد أمرًا نادرًا. كان الوضع يزداد سوءًا كل يوم، وعبود بدأ يشعر بأن الحياة في مدينته لم تعد ممكنة. حتى المدرسة، التي كانت ملاذه الآمن للقاء ليلى، أغلقت أبوابها. انقطع الاتصال تدريجيًا بينه وبين ليلى، لم يعد الهاتف يعمل، والانترنت كان شبه منعدم. عبود حاول الوصول إليها بكل الطرق، لكن كانت الحياة في سوريا تحرمه حتى من أبسط حقوقه، وهو التواصل مع من يحب.


انقطاع التواصل:
في أحد الأيام، وبينما كان عبود يحاول الاتصال بليلى مجددًا عبر هاتفه المحمول، أدرك فجأة أن الشبكة قد انقطعت بالكامل. شعر بأن قلبه قد انكمش داخل صدره. كان يتصل مرارًا وتكرارًا، لكن دون جدوى. كانت المدينة تحت الحصار، كل شيء كان يتعطل؛ الكهرباء، الماء، وحتى الاتصال بالعالم الخارجي. شعور الوحدة بدأ يسيطر عليه أكثر من أي وقت مضى.


عبود عرف أن البقاء في سوريا لم يعد خيارًا. كان عليه أن يترك كل شيء خلفه، منزله، ذكرياته، وربما حتى حب حياته، ليبدأ رحلة لا يعرف نهايتها. تركيا أصبحت الوجهة الوحيدة المتاحة أمامه.


قرار الرحيل:
اتخذ عبود قرار الرحيل بعد نقاش طويل مع والدته المريضة، وهي من تبقت له بعد أن فقد والده. لم يكن قرارًا سهلاً، خاصة أنه يعرف أن الرحيل يعني الابتعاد عن كل ما يعرفه وكل من يحبهم. لكنه أيضًا كان يعرف أنه إذا بقي، فلن يكون هناك مستقبل له.


في إحدى الليالي الباردة، جمع عبود ما تبقى له من أغراض: حقيبة صغيرة بها ملابسه القليلة، صورة لوالده، وقلادة كان قد أهداها له في طفولته. ودع والدته بدموع حارة، وقبل رأسها، ووعدها بأنه سيجد وسيلة ليجلبها إلى بر الأمان لاحقًا. لم يكن يعرف متى أو كيف، لكنه كان يحمل في قلبه أملًا صغيرًا.


الرحلة نحو الحدود:
بدأ عبود رحلته الطويلة نحو تركيا. الطريق كان مليئًا بالمخاطر، وكانت هناك قصص رعب لا تنتهي عن المهربين الذين يستغلون اللاجئين، عن الجنود الذين يطلقون النار دون رحمة، وعن الألغام التي تزرع الموت في كل خطوة.


عبود انضم إلى قافلة من النازحين، معظمهم من العائلات التي فرت بحثًا عن الأمان. كان الجو باردًا بشكل لا يطاق، وكانت الطرق وعرة ومليئة بالمخاطر. عبر الحقول والغابات في ظلام الليل، محاولًا أن يبقى بعيدًا عن أعين الجنود والمليشيات.


مشاهد الألم: في أحد الليالي، وهم يسيرون على طول طريق ترابي متجهين نحو الحدود التركية، شاهد عبود مشهدًا لن ينساه أبدًا. عائلة صغيرة كانت تسير معهم، أم تحمل طفلاً رضيعًا ورجل يحمل حقيبة مليئة بالملابس والأحلام المحطمة. فجأة، تعثرت الأم وسقطت، ولم تستطع النهوض. حاول الرجل مساعدتها، لكن العطش والجوع والبرد قد نالوا منها. عبود كان يقف على بُعد أمتار قليلة، مشلولاً من الصدمة، غير قادر على المساعدة.


صرخ الرجل طالبًا النجدة، لكن القافلة كانت عاجزة عن فعل أي شيء. كانت الأوضاع سيئة جدًا، والجميع كانوا يسيرون بشق الأنفس. لم يكن هناك خيار سوى الاستمرار في السير. شاهد عبود بألم تلك العائلة تترك خلفها في الظلام، مشهدًا سيظل محفورًا في ذاكرته للأبد. كان هذا هو الوجه الحقيقي للحرب؛ الضعفاء يُتركون خلفهم، والأقوى يستمرون في السير، بحثًا عن أمل قد لا يجدونه أبدًا.


عبور الحدود: 

أخيرًا، وبعد أيام طويلة من السير والتعب والجوع، وصل عبود إلى الحدود التركية. لكن العبور لم يكن سهلًا. كان عليه أن يدفع مبلغًا كبيرًا من المال لأحد المهربين ليتجاوز الحدود بطريقة غير قانونية. الأموال التي جمعها عبود بصعوبة من عمله البسيط خلال السنوات الماضية  ليدفع للمهرب.


كانت الليلة التي عبر فيها الحدود مليئة بالخوف والترقب. كان عليهم الزحف تحت الأسلاك الشائكة في الظلام الحالك، وكانت هناك دوريات حدودية تراقب المنطقة. عبود شعر بأن قلبه يتوقف في كل مرة يسمع فيها صوت خطوات الجنود أو يرى أضواء مصابيحهم تتحرك في الظلام. لكنه واصل الزحف، تمامًا كما فعل الجميع.


عندما عبر أخيرًا إلى تركيا، جلس على الأرض بوجه متسخ وملابس ممزقة، وهو ينظر إلى السماء. لم يكن هناك شعور بالانتصار، فقط شعور بالنجاة المؤقتة. كان يعرف أن الصعوبات لم تنتهِ بعد، وأنه سيواجه تحديات جديدة في تركيا، لكنه في تلك اللحظة شعر بأنه على الأقل نجا من الجحيم الذي كان يعيش فيه في سوريا.


الوصول إلى تركيا: 

عندما وصل إلى تركيا، بدأ عبود رحلته الجديدة في بلد غريب. كان اللاجئون السوريون يتكدسون في المدن الحدودية، وكل منهم يحمل قصصًا مليئة بالعذاب والألم. عبود، رغم كل شيء، لم يفقد الأمل في أن يجتمع مرة أخرى بليلى، وفي أن يتمكن من إعادة بناء حياته بعيدًا عن الحرب.


بدأ العمل في أعمال بسيطة، في المطاعم أو في ورش البناء، مقابل أجر زهيد. كان يعيش مع عدد من اللاجئين في غرفة صغيرة ضيقة، لكنهم جميعًا كانوا يحملون نفس الأمل: حياة أفضل، بعيدًا عن أصوات القنابل والرصاص.


لكن رغم كل ما واجهه، كان الشيء الوحيد الذي لا يزال يحافظ عليه هو حبه لليلى. كان يحلم باليوم الذي سيجمعها به مجددًا، يومًا ما، في مكان لا حرب فيه ولا دمار.



إعدادات القراءة


لون الخلفية