بعد القلق والانتظار، والليالي الطويلة التي قضياها عبود وعباس في التخطيط والخوف من المجهول، جاء اليوم الذي طال انتظاره. أخيرًا، وصل عباس إلى تركيا، وأصبح اللقاء بينهما قاب قوسين أو أدنى.
عبود كان ينتظر عباس في محطة حافلات صغيرة على أطراف مدينة حدودية تركية. لم يكن المشهد مألوفًا؛ كان الجو حارًا والطرقات مزدحمة بالسيارات والمارة، معظمهم من اللاجئين الذين هربوا من جحيم الحرب بحثًا عن حياة جديدة. الناس يمشون وهم يحملون أمتعتهم، وأصواتهم تختلط مع أصوات الباعة الذين ينادون على بضائعهم.
وقف عبود هناك، مشدودًا بترقب، ينظر في كل اتجاه، كلما توقفت حافلة، كان قلبه يخفق بقوة، يتمنى أن يرى عباس يخرج منها. التوتر كان واضحًا في عينيه، فقد مر وقت طويل منذ أن رأى صديقه آخر مرة. الزمن الذي قضاه بعيدًا عن وطنه وأصدقائه جعله يدرك أن كل لحظة معه الآن ستكون مليئة بالذكريات والمشاعر المختلطة.
وأخيرًا، توقفت الحافلة القادمة من الحدود. رأى عباس يخرج منها ببطء، مرهقًا ومترقبًا، وقد تغير وجهه بفعل التعب والمعاناة. كان يرتدي ملابس متسخة من طول الرحلة، وعيناه تعكسان الإرهاق والخوف اللذين مر بهما. لكن في اللحظة التي التقت فيها عيونه بعبود، تحولت كل تلك المشاعر إلى شيء آخر... شيء أقرب إلى الراحة.
عبود (بصوت متهدج من العواطف المكبوتة): "عباس؟!"
لم يستطع عبود أن يمنع نفسه من الجري نحو عباس. كان اللقاء مليئًا بالمشاعر المتدفقة؛ العناق الطويل الذي عكس سنوات من الفقدان والخوف. لم تكن هناك حاجة للكلمات، فكل شيء كان واضحًا في نظراتهما.
عباس (بصوت متحشرج): "يا رجل، هل أنا في حلم؟! هل حقًا وصلنا إلى هنا؟"
عبود (وهو يحاول كتم دموعه): "لا، لسنا في حلم. هذا حقيقي. نحن هنا. ونحن بأمان."
جلس الاثنان على كرسي خشبي بالقرب من محطة الحافلات، يتنفسون الصعداء أخيرًا. مرت لحظات من الصمت بينهما، وكأنهما يستوعبان حقيقة أنهما معًا مرة أخرى. كلاهما مر بالكثير، وكلاهما يعلم أن هذه اللحظة ستكون بداية جديدة في حياتهما، مليئة بالتحديات ولكن أيضًا بالأمل.
عباس (وهو ينظر إلى السماء): "لم أكن أصدق أنني سأخرج من سوريا يومًا ما... لقد كانت الطريق طويلة وشاقة، يا عبود. أحيانًا كنت أظن أنني لن أصل أبدًا."
عبود (بابتسامة حزينة): "أعرف. أنا أيضًا مررت بما مررت به. لكننا هنا الآن، وسنبقى معًا. لا شيء سيقف في طريقنا بعد الآن."
بدأ عباس يحكي عن تفاصيل رحلته، كيف كان كل خطوة محسوبة، وكيف كان الخوف رفيقه طوال الطريق. تحدث عن اللحظات التي شعر فيها باليأس، وعن المهرب الذي كان يبدو في كل لحظة وكأنه سيخونه. لكن في النهاية، وصل.
عباس (وهو يتذكر لحظة العبور): "عندما كنا نختبئ خلف تلك الصخور، وشاهدنا الدورية تمر بجانبنا... يا رجل، ظننت أن هذا هو النهاية. قلبي كان ينبض كالمجنون."
عبود (وهو يهز رأسه بتفهم): "أنا أيضًا مررت بمثل تلك اللحظات. لا أحد يعرف كيف كان الوضع مخيفًا إلا من عاشه."
جلسا هناك لساعة طويلة، كل منهما يروي للآخر قصصه، معاناته، وذكرياتهما في سوريا. الذكريات الأليمة والمشاعر المتداخلة بدأت تطفو على السطح. لم تكن هناك لحظات فرح فورية، بل كان كل شيء مزيجًا من الألم والارتياح.
بعد فترة من الصمت، انحنى عباس إلى الأمام ونظر إلى عبود بجدية.
عباس (بصوت هادئ): "عبود، والآن... ماذا عن ليلى؟ هل تتواصل معها؟"
توقف عبود لبرهة، تردد واضح في ملامحه. ليلى دائمًا جزءًا كبيرًا من قلبه، وحتى بعد كل تلك السنوات، لم يتوقف عن التفكير فيها. استعاد الذكريات الجميلة والمؤلمة معًا، وكل المشاعر التي ظن أنه دفنها عادت لتطفو على السطح.
عبود (بتنهيدة طويلة): "نعم، نتواصل مع بعضنا . الأمور كانت صعبة في البداية،فالاتصالات تنقطع في المنطقة بسبب الحرب، لكنني لا أتوقف عن البحث عنها ويصلني اخبارها من اقاربنا كل فترة.
عباس (بفضول): "وهل ما زلت تحبها؟"
توقف عبود مرة أخرى، وكأنه يحاول ترتيب أفكاره. الحب الذي كان يحمله لليلى لم يتغير، لكنه الآن كان يشعر بالقلق مما قد يحمله المستقبل. هل ستظل الأمور كما كانت؟ هل يمكن أن يعود كل شيء إلى سابق عهده؟
عبود (بصوت منخفض): "الحب لم يتغير، يا عباس. لكنني لا أعرف إذا كان الزمن قد غيرنا نحن."
كان اللقاء بين عبود وعباس يحمل في طياته الكثير من المشاعر المختلطة، بين الفرح والخوف، وبين الأمل والقلق. الآن، معًا، كان عليهما التخطيط للخطوة التالية في رحلتهما إلى ألمانيا، والبحث عن بداية جديدة في بلد بعيد عن الوطن، ولكن مليء بالفرص.