الفصل الثامن عشر: انكسار

في السجن، كانت الحياة مختلفة تمامًا عمّا توقعه عبود. لم يكن السجن مجرد جدران باردة وقضبان حديدية، بل كان عالمًا مليئًا بالقسوة والظلم، حيث يجد المرء نفسه محاصرًا بين وحوش لا ترحم. كان السجناء حوله خليطًا من المجرمين الخطيرين، القتلة، وتجار المخدرات. هنا، لم تكن هناك قوانين تحمي الضعفاء، بل كانت القسوة هي الحاكم الوحيد.


عندما دخل عبود إلى زنزانته لأول مرة، شعر بأن العالم كله ينهار عليه. كان السجن مظلمًا، والهواء مشبعًا برائحة الرطوبة والعفن. السجناء الآخرين كانوا ينظرون إليه بنظرات مليئة بالاحتقار، وكأنه غريب في هذا المكان الذي يعتاد الجميع فيه على حياة القسوة.


في الزنزانة، كان عبود محاطًا بأشخاص لم يكونوا يختلفون كثيرًا عن الحراس الذين أساؤوا معاملته. لكن هؤلاء السجناء كانوا أكثر قسوة. كانوا يرونه ضعيفًا، لاجئًا ليس لديه من يدافع عنه. أحد السجناء، رجل ضخم وموشوم يُدعى "غريغور"، كان يملك الهيمنة على كل شيء في الزنزانة. كان يستمتع بمضايقة الآخرين، خاصة الضعفاء.


غريغور (بصوت قاسٍ وهو يقترب من عبود): "إذن، أنت ذلك اللاجئ السوري؟ سمعت أنك تسبب مشاكل. هنا، لا أحد يسبب المشاكل إلا إذا كان يريد أن يتلقى درسًا."

عبود لم يرد. كان يعلم أن الرد سيجعل الأمور أسوأ. لكن غريغور لم يكن ينوي تركه وشأنه.

غريغور (يمسك بكتف عبود بقوة): "عندما أكلمك، ترد، هل فهمت؟"

عبود تمالك نفسه، محاولًا ألا يثير استفزازه. "أنا هنا لقضاء عقوبتي، لا أريد المشاكل."


لكن غريغور لم يكن يبحث عن السلام. كان يريد استعراض قوته على حساب الآخرين. دفع عبود بقوة حتى سقط على الأرض. ضحكات السجناء الأخرى ملأت الزنزانة. كانوا يتسلون بما يحدث، وكانت هذه هي الطريقة التي يُمضي بها الوقت في السجن، إذ يستمتعون بمشاهدة الآخرين وهم يُذلون.


في تلك اللحظات، شعر عبود بالعجز مرة أخرى، لكنه قرر ألا يستسلم. رغم القسوة والظروف التي يعيشها، كان عليه أن يقاوم. لكنه علم أيضًا أن مواجهته لغريغور أو أي أحد آخر في هذا المكان لن تكون حكيمة. لذلك، تراجع وصبر.


الأيام مرت ببطء قاتل، وكان عبود يعيش في خوف دائم من أن يُستهدف مجددًا. في السجن، لم يكن هناك مكان للأمان، وكان عليه أن يبقى متيقظًا. المجرمون في الزنزانة كانوا يتعاملون معه على أنه أقل شأنًا، كونه لاجئًا بلا حماية أو نفوذ. حتى الطعام الذي يُقدم للسجناء كان يُستولى عليه من قبل غريغور وأتباعه، وعبود كان يأخذ الفتات.


في إحدى الليالي، بعد أن أغلقوا الأبواب الحديدية، جلس عبود وحيدًا في زاوية الزنزانة، يحاول أن يجد بعض الهدوء في هذا الجحيم. لكنه سمع خطوات غريغور تقترب مجددًا.

غريغور (بابتسامة ساخرة): "أنت تعرف، في هذا المكان، يجب أن تدفع ثمن البقاء. ولا أتحدث عن المال."

لم يكن عبود بحاجة إلى تفسير. عرف أن غريغور كان يقترح عليه أن يكون تابعًا له، أن يعمل تحت إمرته. لكن عبود لم يكن ذلك الشخص الذي يبيع كرامته للبقاء.


عبود (بصوت ثابت رغم الخوف الذي شعر به): "أنا لست من هذا النوع."

غريغور ضحك بصوت عالٍ. "أوه، سنرى ذلك. السجن طويل، وستتعلم فيه الكثير."


مع مرور الأيام، بدأت محاولات التنمر على عبود تزداد. لم يكن غريغور الوحيد الذي يستمتع بإذلال الآخرين، بل كان هناك سجناء آخرون يراقبون عبود، يختبرون قوته النفسية والجسدية. لكن عبود كان يحاول أن يتمسك بأمله الوحيد، أنه يوما ما سيخرج من هذا المكان المظلم. كان يفكر بأمه، بليلى، وبمستقبله الذي كان يأمل أن يبدأه في ألمانيا.


كلما جلس عبود وحده في الزنزانة، كانت الأفكار تتلاطم في رأسه كأمواج عاتية. هل كان يستحق كل هذا؟ هل كان قراره بمغادرة سوريا هو الخطأ الذي قاده إلى هذا المصير؟ تذكر كلماته الأخيرة لعباس عندما أخبره أن يهرب. هل كان سيفعل نفس الشيء لو عاد به الزمن؟

أصبح الليل أطول في السجن، وازدادت الأوقات الصعبة. في إحدى الليالي، بينما كان عبود يحاول النوم على سريره الصلب، شعر بألم حاد في معدته. لم يكن الألم نتيجة الجوع، بل كان نتيجة للضغط النفسي والجسدي الذي مر به. غريغور وأمثاله كانوا يحاولون باستمرار إيقاعه في المشاكل، والظروف في السجن كانت تزداد قسوة مع كل يوم يمر.


رغم كل هذا، عبود لم يفقد إيمانه. كانت لديه قوة داخلية ترفض أن تنكسر. كان يعرف أن السجن ليس نهاية الطريق، وأنه يوما ما سيخرج، وأن ما يمر به هو اختبار لقوته وصبره. كان يقضي لياليه في التفكير والتخطيط، يتساءل كيف يمكنه النجاة من هذا المكان المظلم، وكيف يمكنه استعادة حياته.

عبود (لنفسه، بصوت خافت وهو ينظر إلى الجدران الباردة): "سأخرج من هنا. سأعيش لأروي قصتي، لن أدع هذا المكان يسلبني حياتي."

لكن الحقيقة المرة كانت أن كل يوم في السجن كان أشبه بالكابوس، وكان عليه أن يتعلم كيف يتعايش مع هذا الواقع المرير حتى يحين الوقت للخروج.


بينما كانت الأيام تمر ببطء، بدأ عبود يتأقلم مع السجن. كان يعرف كيف يتجنب المشاكل، وكيف يحافظ على هدوئه، لكنه كان دائمًا على أهبة الاستعداد. كان كل يوم يمضي يقترب به من اليوم الذي سينتهي فيه كابوسه، وكان يعلق آماله على هذا الأمل الصغير الذي يُبقيه على قيد الحياة.



داخل زنزانته، في تلك اللحظات الهادئة المليئة بالعزلة، كان عبود يستعيد ذكرياته مع ليلى. رغم أن الزمن يمر ببطء خلف القضبان، كانت صورتها عالقة في ذهنه، تضيء ظلام زنزانته.

الجدران الرمادية تحيط بعبود من كل جانب، السكون الثقيل يخيم على المكان. ضوء الشمس الخافت يتسلل عبر نافذة صغيرة لا تتجاوز حجم كف يده. يجلس عبود على سريره المعدني، يحدق في السقف بينما أفكاره تتجول بعيدًا عن الحاضر.


"كلما أغلقت عيني، أرى ليلى... تلك النظرة في عينيها عندما غادرت سوريا. هل ما زالت تنتظرني؟ هل ما زالت تحمل نفس الحب؟"
"لقد وعدتني... وعدتني بأنها ستكون بجانبي دائمًا. لكن العالم تغير كثيرًا منذ ذلك الحين. الحرب، الألم، الغربة. هل ما زال وعدها قائمًا؟"
"كتبت لها رسالة قبل أن أُسجن. لم أتلقَ ردًا. هل تخلت عني؟ أم أن الظروف هي التي فرقتنا؟"


عبود يتذكر تلك الأيام الجميلة التي قضاها مع ليلى قبل الحرب. كيف كانا يجلسان معًا، يحلمان بمستقبل أفضل. كانت ليلى دائمًا مصدر الأمل والدعم بالنسبة له. لكن الآن، خلف القضبان، يشعر عبود بأن ذلك الحلم بات بعيدًا، لكن حب ليلى هو الشيء الوحيد الذي يبقيه قويًا.



إعدادات القراءة


لون الخلفية