بعد فترة من العمل في المطاعم التركية، أدرك عبود أن الأجور الزهيدة التي كان يتقاضاها بالكاد تكفي لتغطية نفقاته. الحياة في تركيا للاجئين السوريين كانت قاسية، ليس فقط من ناحية المال، ولكن بسبب العنصرية والمشاكل البيروقراطية التي كانوا يواجهونها يوميًا. شعر عبود أنه بحاجة إلى تغيير جذري في حياته. لم يعد يملك الوقت للانتظار أو للأمل في فرص أفضل. قرر الانتقال للعمل في قطاع الإنشاءات، رغم المخاطر والصعوبات التي يعرفها.
العمل الشاق: كانت الإنشاءات مهنة مرهقة ومتعبة، تتطلب جهدًا جسديًا كبيرًا. من الصباح حتى الغروب، كان عبود يقضي يومه في رفع الطوب، خلط الأسمنت، وتسلق السقالات العالية. في البداية، كان يشعر بأن التعب الجسدي يساعده على نسيان همومه وآلامه. كلما غرق في العمل، كان يشعر بأن الوقت يمر أسرع، وأن حياته في سوريا تصبح كأنها حلم بعيد.
لكنه سرعان ما أدرك أن العمل الشاق في البناء ينهك جسده ويستهلكه ببطء. لم يكن يعرف ماذا ينتظره في المستقبل، لكن العمل كان الوسيلة الوحيدة لجمع بعض المال، على أمل أن يتمكن من تحقيق شيء أفضل في يوم من الأيام. الحياة في ورش البناء كانت مليئة بالخطر، لكن عبود لم يكن يملك خيارًا آخر.
ذات يوم، وبينما كان عبود يعمل في بناء جدار في أحد المشاريع الكبيرة، حدث ما لم يكن في الحسبان. كانت السقالة التي يقف عليها غير مستقرة، وانزلقت قدماه فجأة. شعر بسقوط حر، وقبل أن يدرك ما يحدث، وجد نفسه ملقى على الأرض. الألم كان لا يوصف. شعر بأن ساقه اليمنى قد تحطمت. صرخ بأعلى صوته، لكن زملاءه لم يسمعوه على الفور بسبب الضجيج المستمر في موقع العمل.
تم نقله إلى المستشفى، وهناك أخبروه بأنه قد تعرض لكسر شديد في قدمه اليمنى، وأنه بحاجة إلى عملية جراحية معقدة. بعد الجراحة، أخبروه بأن قدمه لن تعود كما كانت، وسيحتاج إلى شهور طويلة من التأهيل. كانت تلك اللحظة واحدة من أصعب اللحظات في حياته. عبود كان دائمًا شابًا نشيطًا، يعتمد على قوته الجسدية، وفجأة شعر بأنه أصبح عاجزًا. لم يكن الحزن فقط بسبب الألم الجسدي، بل بسبب الشعور بالعجز والضعف.
مرت الشهور ببطء. كان عليه أن يتعلم المشي من جديد. لم يكن يستطيع العودة إلى العمل في البناء، ولم يكن لديه أي دخل ثابت. كان يعيش على بعض المدخرات القليلة التي جمعها، لكن هذه المدخرات كانت تنفد بسرعة. الحياة أصبحت أصعب من أي وقت مضى. كان الألم الجسدي يتلاشى ببطء، لكن الألم النفسي كان أكبر. شعر عبود بأن حياته توقفت.
البحث عن ليلى: ورغم كل ما مر به، لم يتوقف عبود عن التفكير في ليلى. كانت هي الضوء الوحيد الذي ينير ظلام حياته. حاول مرارًا الاتصال بها، لكن التواصل في سوريا كان لا يزال معقدًا بسبب الحرب وتدهور البنية التحتية. لم يكن يعرف ما إذا كانت لا تزال على قيد الحياة أو إذا كانت بخير. كلما فكر فيها، كان يشعر بحنين جارح. لم يكن يريد أن يفقد الأمل في العثور عليها مرة أخرى.
مرت سنة كاملة وهو في تركيا، يبحث عن أي بصيص أمل للتواصل مع ليلى، لكن دون جدوى. كان يشعر أن حياته توقفت، لكن في داخله كان هناك أمل صغير بأن الزمن سيجمعهما من جديد.
كان يرسل مصروف لامه عن طريق خاله الذي كان يتواصل معه ويطمنه عن حال امه ويوصل المال لها .
عبود كان يجلس على السرير في غرفته الضيقة في تركيا، وقد استسلم للحظة للهموم التي كانت تلاحقه باستمرار. الغرفة كانت باردة، والجو مليء بالوحدة. كان يشعر بأنه رغم النجاة من سوريا، إلا أن شيئًا بداخله قد انكسر. كان يفكر في ليلى باستمرار، يتساءل أين هي؟ وكيف حالها؟ هل لا تزال تفكر فيه كما يفعل؟
بينما كان غارقًا في أفكاره، جاء الاتصال الذي طالما حلم به. كان ذلك اليوم عاديًا بالنسبة لعبود، حتى رن هاتفه فجأة. على الطرف الآخر كان صديقه القديم عباس. كانت لحظة مليئة بالمفاجآت والدهشة.
عباس (بصوت مليء بالارتياح): "عبود، لدي خبر يهمك."
عبود (بتساؤل وقلق): "ماذا هناك؟"
عباس (بابتسامة على الطرف الآخر من الخط): "اتصلت ليلى، وتمكنت من الحصول على رقم هاتفها. الاتصالات عادت في المنطقة، وهي ترسل لك سلامًا."
كانت تلك الجملة كافية لتشعل شعلة الأمل في قلب عبود. شعر بشيء يشبه الحياة يعود إلى داخله بعد فترة طويلة من الغياب. ليلى، تلك الفتاة التي كانت جزءًا كبيرًا من حياته، لا تزال موجودة، لا تزال تتذكره.
عبود (بصوت مليء بالعاطفة): "ليلى؟ حقًا؟ أين هي؟ كيف حالها؟"
عباس: "نعم، عبود. الأمور لا تزال صعبة، لكنها بخير. أعطيتك رقم هاتفها، اتصل بها الآن."
بيدين مرتجفتين من شدة التوتر، أخذ عبود الرقم وبدأ بالاتصال على الفور. كان كل لحظة من لحظات انتظار الرد تحمل في طياتها آلاف الذكريات والمشاعر. الصوت يرن... يرن... حتى أخيرًا.
صوت ليلى (بهدوء): "ألو؟"
عبود (بصوت يكاد يختنق من الحنين): "ليلى... ليلى، إنه أنا... عبود."
كان هناك صمت للحظة على الطرف الآخر من الخط، وكأنها تحاول استيعاب ما يحدث. ثم جاء ردها أخيرًا، بصوت مليء بالمشاعر المكبوتة.
ليلى (بصوت هادئ مليء بالعاطفة): "عبود... لا أصدق أنك اتصلت. كيف حالك؟ أين أنت الآن؟"
كان ذلك كافيًا ليغرق عبود في موجة من المشاعر. سنوات من الألم والقلق والحنين تجمعت في هذه اللحظة. لم يكن يعرف من أين يبدأ أو ماذا يقول، لكنه شعر بأن مجرد سماع صوتها كان كافيًا لملء الفراغ الذي كان يعيشه منذ رحيله عن سوريا.
عبود (بتنهيدة عميقة): "أنا بخير... على الأقل الآن بعد أن سمعت صوتك. كيف حالك؟ هل أنتِ بخير؟"
ليلى (بتردد): "الأوضاع هنا ما زالت صعبة، لكنني صامدة. كنت أفكر فيك كثيرًا. كل يوم كنت أتساءل إن كنت بخير، إن كنت لا تزال حيًا."
عبود (بحزن): "لقد مررت بالكثير يا ليلى. فقدت والدي، وكاد الموت يطاردني في كل لحظة. لكن فكرة أننا سنلتقي مجددًا هي ما أبقتني على قيد الحياة."
ليلى (بصوت مرتجف): "لقد اشتقت إليك يا عبود. الحياة هنا بدونك كانت أصعب مما كنت أتخيل. كنت أعيش على أمل أن نلتقي مرة أخرى."
تحدثا لساعات طويلة تلك الليلة، عبود وليلى. تبادلا الحديث عن الأيام الماضية، عن الأوقات التي قضياها معًا في سوريا، وعن الأيام التي كادت تفرق بينهما إلى الأبد. عبود تحدث عن رحلته إلى تركيا، عن الأهوال التي شاهدها في الطريق، وكيف كان كل ما يريده هو البقاء على قيد الحياة ليعود إلى ليلى.
كل ليلة بعد ذلك، كان عبود يتصل بليلى. الحديث معها كان يعيد له الإحساس بالحياة ويعطيه دفعة للاستمرار. رغم كل ما مر به من معاناة، كان يعلم أن هناك شخصًا ينتظره، شخصًا يعني له كل شيء.
في كل مكالمة، كانا يتحدثان عن مستقبلهما معًا. كانا يحلمان بحياة هادئة وبسيطة بعيدًا عن الحرب والدمار، حياة يعيشونها معًا في سلام.
ليلى (بصوت مفعم بالأمل): "هل تعتقد أننا سنلتقي قريبًا؟"
عبود (بإصرار): "أنا متأكد من ذلك، ليلى. سأجد طريقة، وسنكون معًا مجددًا."
كانت تلك المكالمات تمثل كل شيء بالنسبة لعبود، الأمل، المستقبل، والحب الذي كان يربطه بليلى. كانت تمنحه القوة اللازمة ليواصل الكفاح في هذه الحياة الصعبة، وتمنحه سببًا للاستمرار.