في صباح بارد ومعتم، جلس عبود مكبل اليدين في زنزانة مظلمة، لم يعرف كم مر من الوقت منذ أن انقطع عن العالم الخارجي. كان الوقت يمر ببطء مؤلم، والأخبار عن عباس أو عائلته لم تصل إليه. كل ما كان لديه هو ذكريات عن تلك الليلة المرعبة في المخيم، اللحظة التي اضطر فيها إلى التضحية بنفسه لأجل صديقه. الآن هو هنا، في سجن بارد وغير إنساني، يتعرض للإهانة والمعاملة القاسية.
كان عقله مزدحمًا بالأسئلة. لماذا هو هنا؟ كيف انتهى به الحال في هذا المكان؟ لماذا يتعرض اللاجئون لهذا القدر من الظلم؟ حاول إبقاء نفسه قويًا، لكن الأيام كانت طويلة وصعبة، وكل يوم كان يقربه أكثر من الانهيار.
وفي أحد الأيام، أخبره أحد الحراس أن موعد محاكمته قد اقترب. لم يكن عبود متفاجئًا، فقد كانوا يحاولون جعله عبرة لكل من يفكر في التمرد. كان الحراس يهمسون فيما بينهم بأنه "الخطر"، اللاجئ الذي ضرب الحارس. بالنسبة لهم، لم يكن إنسانًا، بل مجرد رقم في نظام يتجاهل حقوقه وكرامته.
جاء يوم المحاكمة، وتم نقله إلى قاعة المحكمة مكبل اليدين، وسط أعين تملؤها الشفقة والكره. قاعة المحكمة كانت مملوءة بأشخاص، بعضهم جاء لمجرد مشاهدة المحاكمة، وبعضهم كانوا صحفيين يتابعون ما يحدث مع اللاجئين.
دخل عبود القاعة ورأى القاضي يجلس على منصته، تحيط به هيئة المحكمة. وقف الحراس بجانب عبود، وتقدم المحامي الذي عينته المحكمة. عبود كان يعلم أن الأمور ليست في صالحه، لكن كان عليه أن يحاول.
القاضي (بنبرة جادة): "عبود، لقد تم اتهامك بالاعتداء على أحد حراس المخيم، وتسببت له في إصابة خطيرة. هل تدرك مدى خطورة التهمة الموجهة إليك؟"
عبود (بهدوء وهو يحاول التحكم في صوته): "نعم، أدرك ذلك يا سيدي القاضي."
القاضي: "إذن، ماذا لديك لتقوله دفاعًا عن نفسك؟"
كان عبود يعلم أن هذه لحظته للدفاع عن نفسه وعن اللاجئين الآخرين الذين يتعرضون لنفس الظلم. كان عليه أن يكون شجاعًا، أن يجعل صوته مسموعًا.
عبود (بصوت مليء بالألم والغضب المكبوت): "سيدي القاضي، لم أضرب الحارس لأنني أردت ذلك. لقد دافعت عن صديقي، وعن كرامتنا كلاجئين. نحن هربنا من الحروب، من الدمار، من الموت، لنجد أنفسنا هنا في مكان لا يرحم. هذا الحارس، والحراس مثله، يعاملوننا كأننا لا شيء. نُضرب، نُهَان، نُعامل كالحيوانات. هل يُعقل أن يكون هذا هو مصيرنا بعد كل ما مررنا به؟"
القاعة كانت صامتة، وعيون الحاضرين مركزة على عبود، لكن القاضي بدا غير متأثر.
القاضي (بصوت بارد): "هذا لا يبرر الاعتداء على الحارس. القانون واضح، الاعتداء على أي مسؤول هو جريمة."
عبود (مقاطعًا، بصوت أقوى): "لكن أين كان القانون عندما كنا نتعرض للضرب والإهانة يوميًا؟ أين كان القانون عندما كنا نتوسل للحصول على طعام أو علاج؟ أين كان القانون عندما كنا نموت ببطء في هذه المخيمات؟ نحن لسنا مجرمين، نحن بشر، نبحث عن حياة كريمة، نبحث عن فرصة للعيش بسلام."
بدت بعض العيون في القاعة تتغير، البعض بدأ يشعر بمعاناة عبود وما يمر به. لكن القاضي كان صلبًا.
القاضي (بجدية): "هذا ليس دفاعًا مقبولاً أمام القانون. العنف لا يبرر بالعنف."
تقدم المحامي المكلف بالدفاع عن عبود، محاولاً تهدئة الأجواء، لكنه بدا غير مقتنع بقضيته. كان الأمر مجرد إجراء رسمي بالنسبة له.
المحامي: "سيدي القاضي، موكلي يعاني من ظروف نفسية صعبة بسبب الحرب والأوضاع التي عاشها في وطنه سوريا. يجب أن نأخذ هذا بعين الاعتبار."
لكن عبود كان قد تعب من كل هذه الكلمات الفارغة. لم يكن يريد أن يظهر كضحية، بل كإنسان يدافع عن حقوقه وحقوق اللاجئين.
عبود (بصوت حازم): "أنا لا أطلب الشفقة. كل ما أطلبه هو العدالة. لقد ضحينا بكل شيء لنصل إلى هنا، تركنا عائلاتنا وأحبابنا وراءنا، هربنا من الموت فقط لنجد أنفسنا في مكان آخر لا يرحم. هل هذا ما يستحقه اللاجئون؟"
الحاضرون في المحكمة كانوا يستمعون بتركيز. البعض بدأ يشعر بأن عبود لديه قضية حقيقية، لكن النظام كان أكبر من مجرد كلمات.
القاضي (بعد لحظات من الصمت): "عبود، المحكمة تأخذ في عين الاعتبار الظروف التي مررت بها، لكنها لا يمكن أن تتجاهل الجريمة التي ارتكبتها. القانون يجب أن يسود. بناءً على الأدلة والشهادات المقدمة، تحكم المحكمة عليك بالسجن لمدة خمس سنوات."
وقع الحكم كالصاعقة على قلب عبود. خمس سنوات؟ كيف سيقضيها في هذا الجحيم؟ كيف سيستمر في الحياة بدون أن يعرف ما حدث لأمه أو لليلى؟ كيف سيكون مستقبله؟
عبود (بصوت مختنق): "خمس سنوات؟ كل هذا لأنني دافعت عن نفسي وعن صديقي؟"
القاضي لم يرد، واكتفى بالإشارة للحراس لأخذ عبود خارج القاعة. بينما كان الحراس يأخذونه بعيدًا، نظر عبود إلى الحضور. رأى في عيون البعض تعاطفًا، لكنه لم يكن كافيًا. في تلك اللحظة، أدرك عبود أن معركته لم تنتهِ بعد، وأنه سيظل يقاتل، ليس فقط من أجل نفسه، بل من أجل كل اللاجئين الذين يعانون مثله.
وعندما تم إغلاق باب القاعة وراءه، شعر عبود بثقل جديد يضاف إلى أعبائه، لكنه أقسم أنه لن يستسلم.