عبود، بعد مغادرة المحامي، جلس في زنزانته متأملاً في حديثه، وفي تلك اللحظة، غمرته مشاعر مختلطة من الأمل والامتنان والدهشة. لم يكن يتوقع أن يحمل المستقبل شيئًا سوى الظلام، لكن تلك الزيارة أعادت له الأمل الذي كاد أن يفقده. تخيل لقاءه بعباس مجددًا، ذلك الصديق الذي خاض معه مغامرة الهروب القاسية، وها هو الآن يقف إلى جانبه من بعيد.
بينما كان يفكر في ذلك، عاد ذهنه إلى تلك الليلة التي هرب فيها عباس من المخيم البلغاري، وعبود يصرخ بأعلى صوته ليحثه على الهرب. لم يكن قرارًا سهلاً على أي منهما، لكن عبود كان يعلم في أعماقه أن عباس لم يكن لديه خيار آخر. رؤية صديقه ينجو كان هو النور الوحيد في تلك اللحظة المظلمة.
ذكريات عباس بعد الهروب
فلاش باك
حين غادر عباس المخيم البلغاري هاربًا، لم يكن يدري ما الذي ينتظره، لكن كل ما كان في ذهنه هو صوت عبود الذي يصرخ "اهرب يا صديقي... اهرب!". كانت تلك الكلمات تتردد في ذهنه مع كل خطوة يأخذها. كانت الطريق أمامه مليئة بالغموض والخوف، لكنه كان يعرف أن البقاء يعني الموت أو السجن.
توجه عباس عبر الغابات، مختبئًا بين الأشجار لتجنب الحراس البلغاريين الذين كانوا يجوبون المنطقة بحثًا عن الهاربين. في كل لحظة كان يشعر بالخوف الشديد، ليس فقط على نفسه، ولكن على عبود الذي تركه خلفه. كان يلوم نفسه في بعض الأحيان، لكنه كان يعلم في قلبه أن عبود أراد له النجاة.
بعد أيام طويلة من السير بلا طعام كافٍ أو ماء، وصل عباس أخيرًا إلى حدود رومانيا. كان يشعر بالتعب والإرهاق الشديدين، لكن داخله كان هناك شعور بالتحرر، حتى وإن كان غير مكتمل. على الرغم من الوصول إلى بر الأمان النسبي، لم يكن قادرًا على التوقف عن التفكير في عبود.
عندما وصل إلى ألمانيا، كانت المشاعر مختلطة. من ناحية، كان يشعر بالارتياح لأنه وصل إلى وجهته، ومن ناحية أخرى، كانت كل لحظة يتذكر فيها صديقه تجلب له مشاعر الذنب. كيف يمكنه أن يعيش حياته بينما عبود ما زال يعاني؟ ومع مرور الأشهر، قرر عباس أن يفعل شيئًا من أجل عبود، شيئًا يخفف عنه هذا الحمل الثقيل.
في ألمانيا، بدأ عباس في تعلم اللغة، وفي محاولات التأقلم مع الحياة الجديدة، لكنه لم ينسَ صديقه أبدًا. في كل فرصة حصل عليها، كان يبحث عن طرق لمساعدة عبود. كان يراسل المحامين، ويسأل عن حقوق اللاجئين، محاولًا إيجاد طريقة لاستعادة صديقه الذي تركه خلف الحدود البلغارية.
عباس (متحدثًا إلى صديق في ألمانيا):
"لا أستطيع أن أعيش حياتي هنا وكأن شيئًا لم يكن. عبود هو السبب في أنني نجوت، ولا يمكنني تركه هناك."
لم يكن الأمر سهلًا على عباس، لكنه تمكن بعد عام من البحث والعمل الجاد من توفير بعض المال وتوظيف محامٍ معروف في الدفاع عن حقوق اللاجئين. بدأ هذا المحامي في التواصل مع السلطات البلغارية والأوروبية للبحث عن حل لقضية عبود. وعندما علم عباس أن عبود لا يزال على قيد الحياة وفي السجن، شعر بمزيج من الراحة والحزن.
عباس (متحدثًا إلى المحامي):
"أنا بحاجة إلى أن نخرج عبود من هذا الجحيم. لن أتمكن من العيش بسلام حتى أراه حرًا."
المحامي وعد عباس بأنه سيبذل قصارى جهده من أجل هذه القضية، وأن هناك فرصة حقيقية لاستئناف الحكم. لم يكن الطريق سهلاً، لكن عباس كان مصممًا على فعل كل ما بوسعه. في كل ليلة، كان عباس يجلس في غرفته، يكتب رسائل إلى المحامي، يتابع التقدم، ويتمنى لو أن الأيام تمر بسرعة حتى يرى صديقه مجددًا.
الحاضر
بينما كان عبود ينتظر يوم المحاكمة، لم يكن الوقت يمر بسهولة. لكن، فكرة أن عباس لم ينسه، وأنه يعمل بجد من أجله، أعطته دفعة جديدة من القوة. كان يعلم أن الوضع قد لا يتغير بين ليلة وضحاها، لكنه أصبح مؤمنًا بأن هناك فرصة للحرية.
في يوم المحاكمة، تم إخراج عبود من زنزانته للمثول أمام القاضي. كان الوقت يمضي ببطء، وكان عبود يفكر في كل اللحظات التي مر بها منذ دخوله السجن. عندما دخل قاعة المحكمة، رأى المحامي جالسًا في الصف الأمامي، ينظر إليه بابتسامة صغيرة مطمئنة.
القاضي (بصوت جاد):
"عبود، تم استئناف قضيتك بناءً على ما قدمه محاميك من أدلة وشهادات جديدة. ما لديك لتقوله؟"
وقف عبود بثبات، رغم أن قلبه كان ينبض بقوة. لم يكن يتحدث فقط لنفسه، بل لكل اللاجئين الذين تعرضوا للإهانة والظلم.
عبود (بصوت مفعم بالعزيمة):
"يا سيدي القاضي، أنا لم أكن أبحث عن العنف. كنت أدافع عن نفسي وعن كرامتي، وعن صديقي الذي تعرض للتنمر والإهانة. نحن اللاجئين لسنا مجرمين. نحن بشر، نفر من الحروب والدمار، بحثًا عن مكان آمن. وكل ما أطلبه هو فرصة للعيش بكرامة."
كلمات عبود أثرت في القاعة، والمحامي وقف مدافعًا عنه بكل قوة. تحدث عن الظروف الصعبة التي مر بها عبود، وكيف كان يحاول النجاة في بيئة قاسية مليئة بالظلم. شرح المحامي للقاضي كيف أن اللاجئين يتعرضون للإساءة وسوء المعاملة في بعض المخيمات، وأن عبود كان ضحية لهذا النظام.
المحامي (موجهًا كلامه للقاضي):
"عبود ليس مجرمًا. إنه رجل يبحث عن حياة أفضل، وهو يستحق فرصة ثانية."
عندما انتهت المحاكمة، شعر عبود بأن الأمور تسير في اتجاه إيجابي. كانت هناك فرصة حقيقية لتخفيف عقوبته. عاد إلى زنزانته وهو يشعر بالراحة لأول مرة منذ سنوات. كان يعلم أن الطريق ما زال طويلاً، لكن الأمل كان حاضراً.
بعد المحاكمة بأيام قليلة، وبينما كان عبود يجلس في زنزانته ينتظر الأخبار، جاء الحارس لينادي عليه مرة أخرى.
الحارس (بصوت غليظ):
"عبود! لديك زائر!"
تسارعت دقات قلب عبود. من يمكن أن يكون هذه المرة؟ عندما وصل إلى غرفة الزيارة، رأى المحامي جالسًا، لكن بجانبه شخص آخر. رجل وابتسامة هادئة.
المحامي (مبتسمًا):
"عبود، أريدك أن تلتقي بشخص تعرفه جيدًا."
نظر عبود إلى الرجل بجانبه، وفجأة، غمرته موجة من الدهشة والسعادة.
عبود (بصوت مختنق):
"عباس...؟"
كان عباس جالسًا أمامه، لم يتغير كثيرًا، لكنه بدا أقوى وأكثر ثقة.
عباس (مبتسمًا):
"أخبرتك يا عبود، لن أتركك."
كانت تلك اللحظة تحمل الكثير من المشاعر المتداخلة. أخيرًا، بعد كل هذه السنوات من الفراق والمعاناة، يجلسان معًا مرة أخرى.
بعد اللقاء المؤثر بين عبود وعباس في غرفة الزيارة، كانت المشاعر تفيض بينهما. جلسا معًا لوقت طويل، يتبادلان الحديث عن الماضي وما مروا به من صعاب. لكن رغم كل تلك الأحاديث، كان هناك سؤال ثقيل على قلب عبود، سؤال طالما أراد طرحه منذ البداية. نظر عبود إلى صديقه، وترددت الكلمات على شفتيه قبل أن ينطقها.
عبود (بصوت مملوء بالقلق): "عباس... ماذا عن امي ؟ وليلى؟ هل لديك أخبار عنهما؟"
أخذ عباس لحظة صمت، تردد في عينيه وكأنه يعلم أن عبود غير مستعد لتحمل الحقيقة كاملة الآن. كان يعرف جيدًا كم كان عبود متشبثًا بأمل لقائه بليلى وبأمه المريضة. قرر أن يحميه من الحقيقة لفترة أطول، حتى يحين الوقت المناسب.
امك بخير يا عبود انا اقوم بارسال المال لها بين الحين والاخر هي بحال جيدة كنت اطمنها عنك واخبرها اني اتواصل معك لكي تهدء
عباس (بصوت هادئ ومحاولًا إخفاء القلق): " اما ليلى؟ لا تقلق، عبود. تواصلت معها مؤخراً وهي بخير. أرسلت لك سلاماً كبيراً، كانت تسأل عنك وتتمنى أن تراك قريباً وهي مازالت تحبك ."
عبود شعر ببعض الراحة عندما سمع أخبارًا جيدة عن ليلى، لكن لم يكن هناك ما يمنع القلق العميق في قلبه. كان يتمنى لو أن الأمور تسير بشكل أسرع ليتمكن من التواصل معها مباشرة. لكنه قرر ألا يضغط على عباس أكثر.
عبود (بابتسامة صغيرة): "الحمد لله. فقط رؤية ليلى مرة أخرى ستجعلني أتحمل كل هذا. أما أمي... فقد اشتقت لها بشدة."
تجنب عباس النظر المباشر في عيني عبود عندما سمعه يذكر أمه. كان يعلم أن الحقيقة ستأتي لاحقاً، لكن هذا ليس الوقت المناسب لقتل الأمل في قلب عبود.
عباس (بتردد): "لا تقلق، الأمور ستكون على ما يرام. دعنا نركز على خروجك من هنا أولاً، وبعدها سنتحدث عن كل شيء."
عبود اكتفى بهذه الإجابة، لكنه شعر بشيء غريب في نبرة عباس، وكأنه يخفي عنه شيئًا مهمًا. لكنه لم يكن يريد التفكير في أسوأ السيناريوهات الآن، فقد كانت أمامه معركة أخرى في المحكمة، وأمل جديد في الحرية.
عبود (بتنهد): "أنت محق، لنترك الأمور تجري. المهم الآن أن أخرج من هنا."
عباس أومأ برأسه، بينما كان يعرف أن هذا الوقت ليس مناسبًا للكشف عن الحقيقة الكاملة. كان عليه أن يدعم عبود بكل قوة في هذه المرحلة، حتى يحين الوقت المناسب للكشف عن الأخبار المؤلمة.
المحامي : عبود غدا هي محكمتك النهائية سنسمع قرار القاضي ؟