بعد سنوات من الفراق والمصاعب التي مر بها كل من عبود وعباس، جاء اليوم الذي سيجمعهما مجددًا. كان اللقاء قد تم ترتيبه عبر مجموعة من الرسائل والمكالمات، لكن الشعور بلقاء شخص بعد كل تلك السنوات كان مختلفًا تمامًا. قرروا أن يلتقوا في حديقة صغيرة في إحدى ضواحي برلين، مكان هادئ يحمل بعض السكينة وسط ضجيج الحياة الجديدة.
عبود (وهو يمشي ببطء نحو الحديقة، ينظر حوله): "لقد مر وقت طويل... عباس، كيف ستكون الأمور الآن؟"
كان عبود متوتراً قليلاً، لا يعرف كيف سيكون اللقاء. الكثير قد تغير منذ آخر مرة رأى فيها عباس. كل منهما مرّ بتجارب قاسية غيّرت حياتهما للأبد.
في الجهة المقابلة، كان عباس ينتظر، يجلس على مقعد خشبي تحت شجرة كبيرة، وعيناه تراقبان الناس من حوله. كان يفكر في تلك الأيام القديمة عندما كانوا معاً في سوريا، وفي كل ما مروا به منذ تلك اللحظات.
عباس (بين نفسه): “هل سيبدو عبود كما كان؟ هل تغير مثلما تغيرت أنا؟”
عباس رأى شخصًا يقترب منه ببطء. لم يعرف على الفور أن هذا الشخص هو عبود. ملامحه كانت مختلفة تمامًا. بُنيته الجسدية أصبحت أقوى، ووجهه لم يعد يحمل تلك البراءة التي اعتاد عليها عباس؛ كانت ملامحه جدية، صارمة، وكأن سنوات من العذاب والمواجهة قد صقلته.
عباس (مندهشًا، وهو يقف بسرعة): "عبود... هل هذا أنت؟"
عبود (مبتسمًا بخفة): "أجل، يا عباس. لقد مر وقت طويل."
وقف عباس لبرهة ينظر إلى عبود، وكأن الوقت قد توقف. الرجل الذي يقف أمامه الآن لم يكن ذلك الشاب الهادئ والخائف الذي تركه في مخيم بلغاريا. عبود الآن يبدو كرجل صلب، وملامحه الجادة لم تترك مجالًا للشك في أنه مر بالكثير منذ آخر لقاء بينهما.
عباس (بصوت مليء بالتعجب): "يا رجل، لم أكن لأتعرف عليك لولا صوتك. ماذا حدث لك؟ تبدو وكأنك قد خرجت من حرب أخرى."
عبود (يضحك بخفة، لكنه يحمل الكثير من الحزن في عينيه): "لقد كانت الحياة دروسًا قاسية يا عباس. كل خطوة، كل يوم، كان عليّ أن أقاتل. تعلمت أن أكون قويًا، وإلا كنت سأضيع."
عباس (ينهض من مكانه بخطوات مترددة، لكنه سرعان ما يقترب ويحتضن عبود بقوة): "يا الله، عبود! أخيرًا."
كان العناق طويلاً، مليئًا بالعاطفة المكبوتة والمشاعر المتراكمة عبر السنين. كل منهما شعر وكأنه قد استعاد جزءًا مفقودًا من نفسه. لم يكن هذا مجرد لقاء بين أصدقاء قدامى، بل لقاء بين روحين تحملتا الكثير من الألم والمشقة.
عبود (وهو يبتعد قليلاً ليحدق في وجه عباس): "لم أتخيل أنني سأراك مجددًا، يا أخي. ما الذي حدث؟ كيف مر كل هذا الوقت؟"
عباس (بصوت متهدج): "كل شيء... الحرب، الرحيل، ألمانيا... لم يكن الأمر سهلاً، لكننا هنا الآن."
جلس الصديقان على المقعد نفسه، وبدأوا في تبادل الحديث عن كل ما مر بهم منذ آخر لقاء.
عبود (بتنهيدة عميقة): "تتذكر تلك المرة التي كنا فيها معاً؟ ذلك اليوم في المخيم... عندما هربت. لقد ظننت أنني لن أراك مجددًا."
عباس (ينظر إلى الأرض، يشعر بالذنب): "نعم، أتذكر. لا يمر يوم دون أن أفكر في ذلك. لكن لقد عدت وفعلت كل ما باستطاعتي لاخراجك من السجن ولاكن فشلت في ذلك لقد خذلتك يا عبود.
عبود (بصوت هادئ، مشوب بالعاطفة): "لم ألومك أبدًا، عباس. حظي في هذه الدنيا كان سيئا"
عباس (بابتسامة حزينة): "لقد فعلت ما استطعت، لكن لم أكن قادرًا على العيش بسلام وأنا أعلم أنك لا تزال هناك. حاولت مساعدتك بأقصى ما أستطيع... والآن نحن هنا."
بدأ الاثنان يسترجعان ذكرياتهما القديمة في سوريا، قبل الحرب، عندما كانا مجرد شابين يحلمان بمستقبل أفضل. ضحكوا معاً على المواقف الطريفة التي جمعتهما في المدرسة، وتذكروا الأماكن التي كانوا يذهبون إليها للترويح عن أنفسهم.
عبود (بضحكة خافتة): "تتذكر عندما كنا نذهب إلى النهر لنلعب ونتسابق؟ كنت دائمًا تهزمني."
عباس (يضحك بحرارة): "أجل، كنت أسرع منك دائمًا. لكنك كنت الأفضل في تسلق الأشجار!"
عبود (بتنهيدة): "كانت تلك الأيام بسيطة، لم نكن نعرف ما ينتظرنا."
عباس (بصوت هادئ): "نعم، ولكنها كانت جميلة. على الرغم من كل ما مررنا به، تلك الذكريات هي التي أعطتني القوة للاستمرار."
بعد ساعات من الحديث واسترجاع الذكريات، تحولت الأحاديث إلى المستقبل. كان كلاهما يعلم أن ما حدث لهما في الماضي قد شكلهما بطريقة لم يكن بالإمكان تجنبها، لكنهما كانا متفقين على أن المستقبل يحمل فرصًا جديدة.
عبود (بنظرة مليئة بالأمل): "الآن بعد كل ما مررنا به، أعتقد أن لدينا فرصة لبناء شيء أفضل. نحن هنا في ألمانيا، لدينا فرص لا يمكن تخيلها."
عباس (يبتسم): "نعم، عبود. لقد نجونا. وهذا يعني أننا نستحق شيئًا أفضل. نحن نستحق أن نعيش حياة جيدة."
عندما حان وقت الرحيل، لم يكن الوداع محملاً بالأسى. لقد كانت لحظة مليئة بالأمل والتفاؤل.
عبود (وهو يقف): "لا يمكنني أن أشكرك بما فيه الكفاية يا عباس. أنت السبب الذي جعلني أصل إلى هنا."
عباس (بابتسامة): "لا، عبود. لقد فعلت كل شيء بنفسك. وأنت تعلم أنني هنا دائمًا."
احتضنوا بعضهم للمرة الأخيرة، هذه المرة ليس كوداع، بل كتأكيد على صداقتهم التي لن تنكسر مهما كانت الظروف.
عبود (وهو يبتسم): "حتى نلتقي مجددًا."
عباس (مبتسمًا): "حتى نلتقي، أخي."
تركوا المكان وهما يعلمون أن حياتهما ستستمر، لكن هذه اللحظة، هذا اللقاء، سيكون دائمًا منارة في ظلام الذكريات الصعبة.