مرّت الأيام ببطء، كأن الزمن قد توقف أو تباطأ فقط ليثقل كاهل عبود. كان داخل الزنزانة يشعر بأن عقارب الساعة لا تكاد تتحرك، بينما في الخارج تدور الحياة، تتسارع الأحداث، وتتشابك المصائر. بالنسبة لعبود، كل يوم داخل السجن كان اختبارًا لقوة تحمله النفسية والجسدية. لقد مرت سنوات من الألم والوحدة على عبود ولم يستطع التواصل مع اي احد خارج السجن ولا يعرف كيف هي احوال امه وكيف تعيش، لكن الأمل لم يكن مجرد شعاع خافت في قلبه، بل كان قوة دافعة بدأت تملأ كيانه من جديد.
في زاوية الزنزانة، جلس عبود على سرير حديدي متهالك، ممسكًا بدفتر صغير وقلم باهت الحبر، كان ذلك الدفتر هو أغلى ممتلكاته الآن. لم يكن هذا الدفتر مجرد أوراق مسطرة؛ كان عالمًا بديلًا يهرب إليه عبود، ليعيد تشكيل واقع حياته بطريقة تجعله يحتفظ بكرامته وإنسانيته. كل صفحة في ذلك الدفتر كانت مرآة لروحه، تنعكس عليها آلامه، مخاوفه، وأحلامه الضائعة.
أحيانًا، كان يسأل نفسه: "هل سأخرج يومًا من هذا المكان؟ وهل يمكنني أن أعيش حياة طبيعية بعد كل ما مررت به؟". كانت هذه الأسئلة تتكرر في ذهنه كأغنية حزينة لا تنتهي، ولكنه مع ذلك كان يجد نفسه مستمرًا في الكتابة، كأن الكتابة هي طوق نجاته الوحيد.
بدأ عبود يكتب عن طفولته في سوريا، عن الأيام التي قضاها مع أسرته في قرية صغيرة تعانق الطبيعة. كتب عن تلك الأيام التي كانت بسيطة، حيث كان الهواء نقيًا ورائحة الورد والياسمين تملأ الشوارع. كانت سوريا قبل الحرب قطعة من الجنة على الأرض، هكذا كان يتذكرها.
أخذ يكتب عن مدرسته، عن صداقته الأولى مع ليلى. كانت ليلى دائمًا الفتاة التي تجذب الأنظار بابتسامتها الدافئة وشخصيتها القوية. منذ صغره، كان عبود يشعر بأن ليلى ليست مجرد فتاة عادية؛ كانت تمتلك شيئًا خاصًا، شيئًا يجعله يعود إلى تلك الذكريات مرارًا وتكرارًا، حتى وهو خلف قضبان السجن.
في بعض الصفحات الأخرى، كتب عن الحرب التي دمرت كل شيء. كيف بدأت الأصوات المخيفة للقنابل تتسلل إلى الحياة اليومية، وكيف بدأت العائلات تغادر واحدة تلو الأخرى. "كان كابوسًا طويلًا لا ينتهي"، هكذا كتب عبود عن تلك الأيام المظلمة. مع كل قنبلة تسقط، كانت جزءًا من قلبه يتحطم. الحرب لم تأخذ فقط منزله أو مدينته؛ أخذت أيضًا طموحاته وأحلامه.
في تلك الليالي الطويلة التي قضاها عبود في الظلام، كان يجد في الكتابة عزاءً، ولكنه أيضًا كان يواجه ألمه بطريقة لم يكن يجرؤ على مواجهته من قبل. كان كل سطر يكتبه هو اعتراف مؤلم بحقيقة الحياة التي عاشها.
فكر كثيرًا في لقائه الأخير مع عباس.
عبود وعباس لم يكونا مجرد صديقين، بل كانا أشقاء في المعاناة. مرت عليهما سنوات من النضال سويةً، وقاما بكل شيء معًا، من التهرب من الحراس إلى تحمل الجوع والخوف. كتب عبود عن اللحظة التي اضطر فيها للقول لعباس: "اهرب، اترك كل شيء وارحل". لم تكن تلك لحظة شجاعة، بل لحظة يأس، لكنه كان يعرف أن عباس يجب أن يعيش، وأنه يجب أن يواصل الرحلة التي بدأها كلاهما.
في أعماقه، كان عبود دائمًا يشعر بأنه لن يرى عباس مرة أخرى. كانت تلك اللحظة الأخيرة بينهما تظل تطارده في كل ليلة. كلما أغمض عينيه، كان يرى وجه عباس، وكان يسمع صوته وهو يصرخ باسمه.
كانت الأيام في السجن تمر ببطء،
في الليالي الباردة، كان عبود ينام وهو يتخيل حياة جديدة. كان يتخيل كيف ستكون ألمانيا، وكيف سيبدأ حياته من جديد هناك. كان يرى نفسه يمشي في شوارع نظيفة، بين أناس لا يعرفون قصته، ولكنه كان يعرف أنهم سيحترمونه لأنه قاتل بشرف ليصل إلى هناك.
كان يكتب في دفتره عن كل حلم وأمل. "عندما أصل إلى ألمانيا"، كتب عبود في إحدى الصفحات، "سأبحث عن وظيفة، سأتعلم اللغة الألمانية، وسأبني حياتي من الصفر. لن تكون حياة سهلة، ولكنني مستعد لذلك."
أحيانًا كان يكتب عن ليلى، الفتاة التي أحبها بشدة في شبابه. كان يتساءل عما إذا كانت ليلى تفكر فيه، وإذا كانت تندم على تركه. "هل تتذكرني؟"، كان يكتب في دفتره. "هل تفكر فينا؟ في كل تلك الأحلام التي كنا نحلم بها معًا؟".
في تلك الأيام، أصبح عبود مختلفًا.
لم يعد الرجل المهزوم الذي دخل السجن قبل سنوات. أصبح لديه إصرار على البقاء، على الصمود. في كل مرة كان يقف أمام المرآة المهشمة في زنزانته، كان يرى شخصًا جديدًا، شخصًا أقوى. كان يعرف أن الألم الذي مر به قد صقله، جعله أكثر صلابة.
"الألم لا يدمرنا"، كان يقول لنفسه، "الألم يبنينا."
في كل يوم كان يتحدث مع زملائه في السجن، يحاول أن يمنحهم بعض الأمل. كان يتحدث معهم عن ألمانيا، عن المستقبل الذي ينتظره، عن الحرية. "الأمل هو ما يجعلنا نبقى على قيد الحياة"، كان يقول لهم. "إذا فقدنا الأمل، فقدنا كل شيء."
بدأ عبود في رسم خططه للمستقبل.
كتب قائمة بالأشياء التي سيفعلها عندما يخرج من السجن. كانت القائمة بسيطة، ولكنها كانت تعني له الكثير. "أريد أن أرى البحر مرة أخرى"، كتب في أحد الأيام. "أريد أن أمشي على شاطئ البحر، وأشعر بالرياح على وجهي."
في الليالي الأخرى، كان يكتب عن الطعام الذي سيتناوله. كان يحلم بتناول طعام بسيط، مثل طبق من الفلافل أو الكباب، أشياء لم يتذوقها منذ سنوات. "في ألمانيا، سأعيش حياة بسيطة، ولكنها ستكون حياة مليئة بالفرح."
أحيانًا، كان يجلس وحيدًا في الزنزانة ويتأمل في معنى الحياة. "ماذا تعلمت من هذه التجربة؟"، كان يسأل نفسه. "هل أصبحت شخصًا أفضل؟ هل تعلمت شيئًا عن نفسي؟"
الإجابة التي كان يصل إليها دائمًا هي: نعم. لقد تعلم الكثير عن الصبر، عن الألم، عن الأمل. لقد أدرك أن الحياة ليست سهلة، ولكنها تستحق القتال من أجلها. "الحياة ليست عادلة دائمًا"، كان يقول لنفسه، "ولكن هذا لا يعني أن نتوقف عن المحاولة."
في يوم من الأيام، وبينما كان يكتب في دفتره، دخل الحارس إلى زنزانته.
الحارس (بنبرة جافة): "عبود، لديك زائر."
توقف عبود عن الكتابة، شعر بأن قلبه يخفق بشدة. لم يكن يتوقع زائرًا في هذا اليوم. وضع الدفتر جانبًا، ونهض ببطء من سريره. مشى خلف الحارس، وكانت خطواته ثقيلة وهو يتجه نحو غرفة الزيارة.
عندما دخل الغرفة، رأى رجلاً يجلس على طاولة صغيرة. كان الرجل يرتدي بدلة أنيقة، وابتسامة هادئة على وجهه. جلس عبود أمامه، وعيناه تملؤهما التساؤلات.
المحامي (بهدوء): "مرحبًا عبود. أنا محامٍ أتيت من ألمانيا، جئت من طرف صديق قديم لك."
عبود (بدهشة): "من؟"
ابتسم المحامي وقال: “عباس.”